(عماية) و (الوحاف)
قال الأخ صالح «الوحاف موضع بنجد قريباً من عروى لم يرد في بلاد العرب غيره قال عنه البكري موضع في بلاد هذيل» , ثم قال : «فتتوسطها من ديار هذيل , جلجل , اوطاس , المحاني , الربى , نبائع , كراش , الركايا , الرجاز , عيون , الرحى , الوحاف , خنثل , عماية , والله أعلم» ثم قال : «والوحاف وخنثل وعماية جبال مشتركة بينهم وبين بنو عامر بن صعصة» .
ثم قال : «عماية جبل بنجد قريب من عسيب وخنثل , لم يرد مسماه في غير نجد قال صاحب خزانة الأدب عماية جبل من جبال هذيل»
قلت : الذي يتخذ الوهم حجة والخطأ دليلا على دعواه , هو أحد رجلين إمّا رجل لا يميّز بين الحق والباطل , فيظن أنّ كلّ بيضاء شحمة , أو رجل أفلس من حجج الحق فلجأ إلى الأوهام ليلبّس بها على البسطاء , في الحقيقة كان كافياً في الردّ على هذه الأوهام السابقة واللاحقة كلّها ذكر حقيقة واحدة , وهي حقيقة معروفة مشهورة متواترة في الجاهلية والإسلام حتى عصرنا هذا , وهي معرفة مكان «بلاد هذيل» والذي أصبح كالعلم الواحد عند أهل العلم المتقدمين والمتأخرين , فعندما يقول العالم : هذا الموضع في «بلاد هذيل» , فإن الأذهان تتجه إلى ما جاور مكة من تهامة أو ما سال من السراة غرباً , ولكني توسعت في الردّ , لأن الأخ صالح تجاوز مرحلة الاستدلال بالأوهام إلى مرحلة أن يعيش في هذه الأوهام , فقد جمع عدداً من التصحيفات والأخطاء والأوهام ثم نسج على هذه الأوهام خارطة لا توجد إلا في ذهنه , ثم بقي سنوات وهو يلبّس بها على البسطاء , فكان لابدّ من الردّ عليه .
اليوم سوف أتكلّم على موضعين شهيرين , أمّا الموضع الأول وهو (الوحاف) وهي الجبال المعروفة بالقرب من (تثليث) قريب من (نجران) , والموضع الثاني وهو (عماية) وهو حصاة قحطان المعروفة في (جنوب نجد) , وهذه المواضع ليست من بلاد هذيل , ولم تكن يوماً من بلاد هذيل لا في الجاهلية ولا في الإسلام , ولولا ما ساقه الأخ صالح من التدليس والتلبيس ما رددت عليه , لبعد (الوحاف) و (عماية) عن بلاد هذيل .
قال صالح : «الوحاف موضع بنجد قريباً من عروى لم يرد في بلاد العرب غيره قال عنه البكري موضع في بلاد هذيل» .
قلت : أولاً : هذا الكلام ليس من كلام البكري إلا قول : «موضع في بلاد هذيل» .
ثانياً : بقية الكلام من الحصر والتحديد في نجد هذا من كيس الأخ صالح .
ثالثاً : هذا الموضع ليس في نجد , بل في جنوب الجزيرة العربية , في بلاد بني عقيل من هوازن بالقرب من (تثليث) , في جهة (نجران) .
رابعاً : لا يوجد في نجد موضع اسمه (الوحاف) , إلا ما أطلق وصفاً , قال ابن منظور : «والوحفة: أرض مستديرة مرتفعة سوداء ، والجمع وحاف» , قال ابن مالك : «والوحاف جمع وحفة : وَهِي الأكمة الْحَمْرَاء أَو الغبراء المائلة إِلَى سَواد , ووحاف مَوضِع» .
وكما قال ذو الرّمة :
تظل الوحاف الصدء فيها كأنها ... قراقير موجٍ غص بالساج قيرها
قال أبو نصر أحمد بن حاتم الباهلي (المتوفى: 231 هـ) شارح ديوان ذي الرمة : «الوحاف : الحجارة لا تبلغ أن تكون جبلاً. و«الصدء» : الحمر إلى السواد. ويروى: «تظل القنان الصدء .. »: وهي الآكام» .
وقول المخبّل يهجو بنى عبّشمس من بنى تميم :
أيا شرّ حىّ بين أجبال طيّىء ... وبين الوِحافِ السُودِ مِن سَروِ حِميَرا
«سرو حمير» من منازل حِمْيَر بأرض اليمن .
وقول الشريف الرضي :
دعا بالوحاف السود من جانب الحمى ... نَزِيعُ هَوًى ، لَبّيتُ حينَ دَعَاني
خامساً : تلبيس الأخ صالح بقوله : «بنجد قريباً عروى» , فيظن السامع أنها (عروى) التي في عالية نجد بقرب الدوادمي والشعراء , والتي هي من بلاد هوازن سابقاً واليوم , ولم تكن (عروى) التي في عالية نجد من بلاد هذيل لا في الجاهلية ولا في للإسلام , أمّا (عروى) التي ذكرها صالح في كلام البكري فهي موضع آخر في جنوب الجزيرة العربية , و هي التي بجوار (جبال القهر) .
سادساً : قام الأخ صالح -عفا الله عنه- بحذف بقيّة كلام البكري حتى لا ينكشف ويتبيّن تلبيسه ويتبيّن المكان الصحيح لـ(عروى) و (الوحاف) , وسأنقل كلام البكري وأناقشه .
قال أبو عبيد البكري (المتوفى: 487هـ) في «معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع» : «الوحاف بكسر أوّله، وبالفاء فى آخره: موضع فى بلاد هذيل، قد تقدم ذكره فى رسم عروى. وقد أضافه لبيد إلى القهر كما مضى فى رسم محجّر، وجعله المخبّل من سرو حمير، فهما إذن وحافان , قال المخبّل يهجو بنى عبّشمس من بنى تميم:
أيا شرّ حىّ بين أجبال طيّىء ... وبين الوِحافِ السُودِ مِن سَروِ حِميَرا
وقد يريد بالوحاف: جمع وحفة، لتخصيصه السّود، والوحفة: صخرة تكون فى جنب الوادى أو فى سند، ناتئة سوداء» . انتهى
ثم قال البكري أيضاً : «الوحفان : على لفظ تثنية وحف: موضع فى (بلاد عقيل) قال مزاحم بن الحارث بن مصرّف بن الأعلم، لابن عمّ أبيه الطّمّاح بن عامر بن الأعلم:
ألهى أباك فلم يفعل كما فعلوا ... أكل الذّباب من (الوحفين) والضرب» . انتهى
قلت :
أولاً : قام صالح في مشاركته بحذف قول البكري : (وقد أضافه لبيدٌ إلى القهر) من مشاركته , وقول لبيد رضي الله عنه في غاية الشهرة .
ولبيد هو أبو عقيل لَبيد بن ربيعة من بني عامر بن صعصعة من قبيلة هوازن صحابي جليل رضي الله عنه , وأحد الشعراء الفرسان الأشراف في الجاهلية والإسلام ، عمه ملاعب الأسنة وأبوه ربيعة بن مالك والمكنى «بربيعة المقترن» لكرمه .
قال لبيد رضي الله عنه ,
بِمَشَارِقِ الجَبَلَيْنِ أَوْ بِمُحَجَّرٍ ... فَتَضَمَّنَتْهَا فَـرْدَةٌ فَرُخَامُـهَا
فَصُوائِقٌ إِنْ أَيْمَنَتْ فَمَظِنَّـةٌ ... فِيْهَا (وِحَافُ القَهْرِ) أَوْ طِلْخامُهَا
ثانياً : قول البكري «موضع في بلاد هذيل» , هذا وهم من البكري لا شك في ذلك , إن لم يكن تصحّيف من غيره , من لفظ (عقيل) إلى (هذيل) فهما قريبتان في الرسم وبنو عقيل من هوازن أهل تلك الديار , أو تصحّف من (ذهل) إلى (هذيل) , فإنه قال في رسم (عروى) المقرونة بالوحاف : «فى بلاد بنى ذهل» وهذا الوهم والخطأ سواء كان من البكري أو من غيره , فهو على كلّ حال وهمٌ وخطأ مردودٌ , فليس (الوحاف) من بلاد هذيل ولم يكن يوماً , وقد صرّح البكري في بقيّة كلامه أن (الوحفين) من (بلاد عقيل) وهي (الوحاف) كما سيأتي .
ثالثاً : البكري رحمه الله أخطأ ففرق بين الوحاف و الوحفين , وهما موقع واحد , ذكرهما الشاعر نفسه بالتثنية وبالجمع , ولا زالت إلى اليوم تثنّى وتجمع , والعامة اليوم يقولون في التفصيل : (الوحف) و (الوحيف) , ويقولون في الجمع : (الوحاف) , ثم إن البكري قال : «الوحفان : على لفظ تثنية وحف : موضع فى (بلاد عقيل) , قال مزاحم بن الحارث بن مصرّف بن الأعلم، لابن عمّ أبيه الطّمّاح بن عامر بن الأعلم:
ألهى أباك فلم يفعل كما فعلوا ... أكلُ الرّباب من (الوحفين) والضرب» . انتهى
قلت : البيت الذي استدل به البكري على (الوحفين) هو لمزاحم العقيلي وهو من بني عقيل بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة ، وقد ذكر مزاحم أيضاً (الوحاف) بصيغة الجمع , مما يدل على أنهما موضع واحد ,
فقال مزاحم العقيلي عندما قتل رجل من بني جعدة من هوازن في قصة له :
أتاني بقرطاس الأمير مغلّس ... فأفزع قرطاس الأمير فؤاديا
فقلت له: لا مرحبا بك مرسلا ... إليّ ولا لبّي أميرك داعيا!
أليست جبال القهر قعسا مكانها، ... وعروى و(أجبال الوحاف) كما هيا؟
وهذه المواضع التي ذكرها مزاحم لا زالت معروفة إلى اليوم بأسمائها وهي متجاورة , قال الهمداني (المتوفى: 334هـ) في صفة جزيرة العرب : «ثم حمى والوحاف وبئر الربيع ثم مذود من أسفل نجران»
قلت : جبال (الوحاف) وهما جبلان (الوحف) و(الوحيف) في سهلة أسفل وادي (تثليث) تبعد شمالا عن تثليث 50 كيلا تقريباً , يحفهما وادي تثليث من جهة الغرب , وهي اليوم في بلاد قحطان .
ذكر أبو علي الهجري (المتوفى: نحو 300هـ) في «التعليقات والنوادر» أن والوحاف تسمّى (وحاف القهر) و (وحفة القهر) و (وحاف العتيك) و (وحاف الصيد) , قلت : لعل (وحاف الصيد) تصحّف على المحقق رحمه الله من (وحاف الصدء) وَهِي الأكمة الْحَمْرَاء أَو الغبراء المائلة إِلَى سَواد , كما قال ذو الرّمة :
تظل الوحاف الصدء فيها كأنها ... قراقير موجٍ غص بالساج قيرها .
قال أبو علي الهجري في «التعليقات والنوادر» : «عروى هضبة نحو (ماسل) وليست بعروى التي قرب (وحفة القهر) هذه امنع واشمخ» .
وقال أبو علي الهجري أيضاً في «التعليقات والنوادر» : «الوحفة بلد أسفل نجران» .
قال لبيد رضي الله عنه ,
بِمَشَارِقِ الجَبَلَيْنِ أَوْ بِمُحَجَّرٍ ... فَتَضَمَّنَتْهَا فَـرْدَةٌ فَرُخَامُـهَا
فَصُوائِقٌ إِنْ أَيْمَنَتْ فَمَظِنَّـةٌ ... فِيْهَا (وِحَافُ القَهْرِ) أَوْ طِلْخامُهَا
قال الأنباري (ت 328هـ) في شرح قصيدة لبيد بن ربيعة «شرح القصائد السبع الطوال الجاهليات» : «ووحاف القهر: موضع. وقال أبو جعفر: الوحاف: إكام صغار إلى جانب القهر، والقهر: جبل. وواحد الوحاف وحفة ووحف».
قال التبريزي (المتوفى: 502هـ) في «شرح القصائِد العشر» : «والوحاف: إكام صغار إلى جانب القهر، والقهر: جبل، وواحد الوحاف وحفة ووحف» .
يقول ابن بليهد رحمه الله في «صحيح الأخبار» : «ومما دل على ان القهر الذي ذكره لبيد واقع في بلاد قحطان في الجهة اليمانية قول لبيد {ان ايمنت} فقد جعل القهر يمانيا وهو واقع في بلاد قحطان والقهر معروف بهذا الاسم الى هذا العهد ومعدن البارود الذي بها : معروف بقوة انتزاعه من البندقية واصابته للفريسة وفي ذلك يقول شاعرأعرابي في ابيات له نبطية وهو شاعر معروف عند عامة أهل نجد يقال له : مخلد القثامي :
يالايمي يضرب على حد الأبهر... ياخذ الى حوله صوابه مجيفي
بمثومن حاديه خفان و عشر ... وملح (القهر) وبواردي ظريف» انتهى
قَالَ الصحابي الجليل النَّابِغَة الْجَعْدِي رضي الله عنه , وهو من بني جعدة بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن :
تَحُلُّ بِأطْرَافِ (الوِحافِ) ودونَها ... حَوِيلٌ فَرَيْطَاتٌ فَرَعْمٌ فَأخْرَبُ
قلت : وبهذا يتبيّن أن (الوحاف) كان من بلاد هوازن , وأنه في غاية البعد عن بلاد هذيل .
فلعل البكري اختلط عليه باسم آخر , فقد ذكر ياقوت الحموي مكاناً اسمه مقارب لعلّه المراد , قال ياقوت الحموي (المتوفى: 626هـ) في « معجم البلدان» : «وَحِيفٌ : بالفتح ثم الكسر، قال أبو عمرو: الوحاف من الأرضين ما وصل بعضه ببعض، والوحيف مثل الوصيف وهو الصوت: وهو موضع كانت تلقى فيه الجيف بمكة» .
أمّا قول الأخ صالح : «فتتوسطها من ديار هذيل , جلجل , اوطاس , المحاني , الربى , نبائع , كراش , الركايا , الرجاز , عيون , الرحى , الوحاف , خنثل , عماية , والله أعلم» , فهذه كانت أماني عند الأخ صالح , ولكنها تبخّرت فقد تبيّن فساد قوله في الردود السابقة عليه في تلك المواضع .
أمّا قوله : «والوحاف وخنثل وعماية جبال مشتركة بينهم وبين بنو عامر بن صعصة» , فقد بيّنت في ردّ سابق أن (خنثل) تصحّف عليه من (كنثيل) و (خنثل) وادي وليس جبلا , وذكر هذا الكلام وحكاته تغني عن الردّ عليه , فليس هذا من باب الخيال والفنتازيا , بل هذا من باب الهرطقة والسفسطة في هذا الفن .
(عماية)
أمّا قوله : «عماية جبل بنجد قريب من عسيب وخنثل , لم يرد مسماه في غير نجد قال صاحب خزانة الأدب عماية جبل من جبال هذيل» , فهذا مردود نقلاً وعقلاً , لم أرَ مثل هذه التخبطات , فكيف جعل هذه الأماكن المتباينة من تهامة إلى جنوب نجد إلى وسطه متقاربة متجاورة ؟!! , ولكن من تكلّم في ما لا يحسن أتى بالعجائب , وهذا الموضع (عماية) ودعوى أنه من بلاد هذيل مثله مثل سائر المواضع التي سبق وادّعى صالح أنها من بلاد هذيل , إنمّا هي أخطاء وأوهام ردّ عليها أهل العلم , فقد تتابع اللغويون والمتأخرون خلف قول السكري : «عماية جبل بالبحرين من جبال هذيل» , فمنهم من اقتصر على ذكر البحرين ومنهم من اقتصر على ذكر هذيل , ومنهم من ذكرها كاملة , كما قال الميداني النيسابوري (المتوفى : 518هـ) في مجمع الأمثال : «أثقل من عماية هي جبل بالبحرين من جبال هذيل» , وأين (البحرين) و (عماية) من بلاد هذيل ؟!!! , بل البلدانيون لم يلتفتوا إلى قوله (من جبال هذيل) كما سيأتي .
ولا شك أن هذا خطأ واضح ووهم قبيح , مردود سواء كان كلام السكري أو غيره بكلام من هم أعرف وأوثق , فجبل (عماية) أو (عمايتان) يفرد ويثنّى ليس من بلاد هذيل لا في الجاهلية ولا في الإسلام , فبلاد هذيل تقع في تهامة , وتقع (عماية) في جنوب نجد .
قلت سأذكر أقوال البلدانيين , فهذا ياقوت يذكر جميع الأقوال عن موضع (عماية) ولم يذكر أنها من بلاد هذيل , لعلمه ببعد ذلك أو يقينه بخطأ السكري , مع نقله عنه قوله الآخر (جبل معروف بالبحرين) .
قال ياقوت الحموي (المتوفى: 626هـ) في : معجم البلدان «عَمَايَتَانِ : تثنية عماية، بفتح أوله، وتخفيف ثانيه، وبعد الألف ياء مثناة من تحت، وباقيه للتثنية، وعماية ويذبل: جبلان بالعالية، وثني عماية وهو جبل كما ثني رامتان، قال جرير:
لو أنّ عصم عمايتين ويذبل ... سمعت حديثك أنزلا الأوعالا
قال أبو عليّ الفارسي: أراد عصم عمايتين وعصم يذبل فحذف المضاف».
وقال : «عَمَايَة : بفتح أوله، وتخفيف ثانيه، وياء مثناة من تحت : اسم جبل، يجوز أن يكون من العما وهو الطول، يقال: ما أحسن عما هذا الرجل أي طوله، ويجوز أن يكون من عمى يعمى إذا سأل، والعمي مثال الظبي: دفع الأمواج القذى والزبد من أعاليها، وقيل: العماية الغواية وهي اللجاجة، والعماية : السحابة الكثيفة المطبقة .
وقال نصر: عمايتان جبلان، عماية العليا اختلطت فيها الحريش وقشير والعجلان، وعماية القصيا هي لنهم شرقيها كله ولباهلة جنوبيها وللعجلان غربيها، وقيل: هي جبال حمر وسود سميت به لأن الناس يضلون فيها , يسيرون فيها مرحلتين .
وقال السكري: عماية جبل معروف بالبحرين، قاله في شرح قول جرير يخاطب الحجاج فقال :
وخفتك حتى استنزلتني مخافتي ... وقد حال دوني من عماية نيق
يسرّ لك البغضاء كل منافق ... كما كل ذي دين عليك شفيق
وقال أبو زياد الكلابي: عماية جبل بنجد في بلاد بني كعب للحريش وحق والعجلان وقشير وعقيل، قال : وإنما سمي عماية لأنه لا يدخل فيه شيء إلا عمي ذكره وأثره، وهو مستدير، وأقل ما يكون العرض والطول عشرة فراسخ، وهي هضبات مجتمعة متقاودة حمر، ومعنى متقاودة متتابعة، فيها الأوشال وفيها الآوى وفيها النمر، وأكثر شجرها البان ومعه شجر كثير وفيه قلال لا تؤتي أي لا تقطع .
قال السكري: قتل القتال الكلابي واسمه عبد الله بن مجيب رجلا وهرب حتى لحق بعماية، وهو جبل بالبحرين، فأقام به، قيل: عشر سنين، وأنس به هناك نمرا فكان إذا اصطاد النمر شيئا شاركه القتال فيه وإذا اصطاد القتال شيئا شاركه النمر فيه إلى أن أصلح أهله حاله مع السلطان وأراد الرجوع إلى أهله فعارضه النمر ومنعه من الذهاب حتى همّ بأكله، فخاف على نفسه فضربه بسهم فقتله، وقال فيه :
جزى الله خيرا، والجزاء بكفه، ... عماية عنّا أمّ كلّ طريد» . انتهى كلام ياقوت .
أمّا قول البكري فهو أشدّ تخبطاً في مكانها , ومع ذلك لم يجعلها من بلاد هذيل .
قال أبو عبيد البكري (المتوفى: 487هـ) في «معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع» : «عماية بفتح أوّله، وبالياء أخت الواو، على لفظ فعالة من العمى: جبل بالبحرين ضخم، ولذلك قيل فى المثل: أثقل من عماية. وقد تقدم ذكره فى رسم الرّكاء ورسم صاحة، وسيأتى ذكره فى رسم سحام ، قال سلامة بن جندل:
له فخمة ذفراء تنفى عدوّه ... كمنكب ضاح من عماية مشرق
فأمّا قول جرير:
ولو أنّ عصم عما يتين ويذبل ... سمعا بذكرك أتزلا الأوعالا
فإنّه أراد عماية وصاحة، وهما جبلان، فسمّاهما عمايتين».
قلت : ويتبيّن تناقض كلام البكري كما نبه عليه الأستاذ سعد ابن جنيدل بالرجوع إلى رسم (الرّكاء) و (سحام) و (صاحة) , و لم تكن (عماية) أو (عمايتان) من بلاد هذيل بل كانت من بلاد هوازن في الجاهلية والإسلام إلى العصور المتأخرة فأصبحت من بلاد قحطان .
قال أبو علي الهجري (المتوفى: نحو 300هـ) في «التعليقات والنوادر» (1/27) : «عماية جبل، ضخم أعظم جبال (نجد) , أعظم من ثهلان , ومن قطنين ، وعماية برمل السرة بين سواد باهلة وبيشة» .
قال لغدة في «بلاد العرب» (234) وهو يذكر بعض منازل هوازن : «ولبني قشير وغيرهم : من الجبال «عمايتان» أحدهما للحريش , والأخرى لنُهْم وهم بنو عبد الله بن كعب إخوة العجلان» .
قال نصر (المتوفى : 561هـ) في «الأمكنة والمياه» (2/271) : «عمايتان جبلان ، عماية العليا , اختلطت فيها الحريش وقشير والعجلان ، وعماية القصيا , هي لنُهم شرقيها كله , ولباهلة جنوبيها , وللعجلان غربيها ، وقيل: هي جبال حمر وسود سميت به لأن الناس يضلون فيها , يسيرون فيها مرحلتين» .
ومكان (عماية) أو (عمايتان) التي اسمها اليوم (حصاة قحطان) في جنوب غرب محافظة القويعية بمسافة 150 كيلا وهي عبارة عن جزئين الحصاة الدنيا (شمال الحصاة) والحصاة القصوى (جنوب الحصاة) والمسافة بينهما أربعون كيلومتراً تقريباً .
وقد ردّ على أبي سعيد السكري في كلامه السابق , وعلى الهمداني الشيخ حمد الجاسر رحمه الله في «معجم المنطقة الشرقيّة» (البحرين قديماً) (3/1184) في رسم (عماية) فقال : «وأراه وهماً من السكري , فعماية على ما ذكر من هو أوثق من السكري وأعرف بمواضع الجزيرة , في نجد , وموقعها لا يزال معروفاً , وتعرف باسم الحصاة -حصاة قحطان- وقد حدد موقعها الأستاذ سعد ابن جنيدل في كتاب «عالية نجد» أحد أقسام «المعجم الجغرافي للبلاد العربية السعودية» تحديداً صائباً- وهما عمايتان .
أمّا الهمداني فقوله بأن عمايتين في بلاد البحرين مبنيّ على أن امرأ القيس من كندة , وبلاد كندة في البحرين قبل أن تنتقل إلى اليمن , وفاته أنه حدّد موقعها تحديداً صحيحاً , كما فاته أن امرأ القيس عاش في نجد وأكثر المواضع الواردة في شعره تقع في نجد وما حولها» . انتهى
قلت : كلام الأستاذ سعد ابن جنيدل في كتاب «عالية نجد» (377/1)
وكانت (عماية) من مرابّ الصيد وخاصة العُصم وهي الوعول التي تعتصم برؤس الجبال , لذا تمثل بـ(عماية) كثير من الشعراء سواء من هوازن أهلها أو غيرهم , وكذلك ضربوا المثل بثقلها (أثقل من عماية) , لذا تمثل بذلك الشعراء أيضاً .
قال لبيد بن ربيعة رضي الله عنه :
فَحَدَّرَ العُصْمَ مِنْ عَمَايَة َ للسّهْـ ... ـلِ وَقضَّى بصاحَةَ الأرَبا
قال أبو حية النميري :
عشيّةَ صيِّفٍ وتَضمَّنتْهُ ... رِهاءٌ من عَمايةَ أو حوامي
قال الراعي النميري :
تهوي بهنّ من الكدريّ ناجية ... بالروض روض عمايات لها ولد
وقالت ليلى ترثي توبة بن الحمير الخفاجي:
نظرتُ ودوني من عماية منكبٌ ... وبطنِ الركاءِ أيَّ نظرةَ ناظرِ
قال البكري بعد بيت ليلى في رسم (الركا): وهى كلها في ديار بنى عقيل.
قال جرير:
إنّ العدوّ إذا رموك رميتهم ... بذرى عماية أو بهضب سواج
قال امرؤ القيس :
أقب رباع من حمير عماية ... يمج لعاع البقل في كل مشرب
قال سلامة بن جندل :
له فخمة ذفراء تنفى عدوه ... كمنكب ضاح من عماية مشرق
قال مالك الباهلي :
فدعْ ذا ولكنْ هلْ أتاها مُغارُنا ... بذاتِ العراقِي إذْ أتاها نذيرُها
بملمومةٍ شهباءَ لوْ نطحُوا بها ... عمايةَ أوْ دمخاً لزالتْ صخورُها
قال عمرو بن لجأ :
هَرِيتاً كجَفْرٍ من عَمايةَ آجِنٍ ... صَراهُ أثارَتْهُ الأكفُّ فأزبَدا
قال الفرزدق :
يصدعنَ ضاحيةَ الصفا عنْ متنهِ ... ولهنَّ منْ جبلي عمايةَ أثقلُ
وقال المرقش الأكبر أيضاً:
في باذخاتٍ من عمايةَ أو ... يرفعُهُ دونَ السّماءِ خيمْ
قال ذو الرمة :
ولو كلّمت مستوعلا في عماية ... تصبّاه من أعلى عماية قيلها
قال جرير:
لو إن عصم عَمايَتين ويذبل ... سَمِعا حديثَك أَنزلا الأوعالا
وقال جرير:
ولو كنت في نجران أو بعماية ... إذن لأتاني من ربيعة راكب
أمّا حجة صالح بأن هذا المكان لا يعرف في الحجاز فهي حجة ضعيفة , فكم من موضع قال صالح عنه لا يُعرف وهو بجواره ولم يعرفه , فليس الأخ صالح حجة في نقله ولا مرجعاً في حكمه , وعلى فرض صحة القول بعدم معرفة هذا الموضع في تهامة , فهذا أيضاً لا ينفي وجوده فيها , فكم من موضع بقي اسمه ولا يُعرف اليوم مكانه , ثم هذا ليس مسوّغاً للأخ صالح للقفز على الأسماء المشابهة , قال الهمداني (المتوفى : 334هـ) في صفة جزيرة العرب (112): «وبار وهي أرض كانت بها أمم من العرب العاربة ولم ألق من يعرفها» , فهنا في القرن الرابع لم يعرف الهمداني (وبار) ولم يجد من العلماء والناس من يعرفها , مع ذكرها في الأشعار والأخبار ، على أنها بلاد كبيرة وعظيمة على ما يدلّ عليه كلام أهل العلم وقول الهمداني (كانت بها أمم من العرب) يدل على ذلك ، فلم يخترع أحداً بلداً لهذا الاسم كما يصنع الأخ صالح غفر الله له .
قال الأخ صالح «الوحاف موضع بنجد قريباً من عروى لم يرد في بلاد العرب غيره قال عنه البكري موضع في بلاد هذيل» , ثم قال : «فتتوسطها من ديار هذيل , جلجل , اوطاس , المحاني , الربى , نبائع , كراش , الركايا , الرجاز , عيون , الرحى , الوحاف , خنثل , عماية , والله أعلم» ثم قال : «والوحاف وخنثل وعماية جبال مشتركة بينهم وبين بنو عامر بن صعصة» .
ثم قال : «عماية جبل بنجد قريب من عسيب وخنثل , لم يرد مسماه في غير نجد قال صاحب خزانة الأدب عماية جبل من جبال هذيل»
قلت : الذي يتخذ الوهم حجة والخطأ دليلا على دعواه , هو أحد رجلين إمّا رجل لا يميّز بين الحق والباطل , فيظن أنّ كلّ بيضاء شحمة , أو رجل أفلس من حجج الحق فلجأ إلى الأوهام ليلبّس بها على البسطاء , في الحقيقة كان كافياً في الردّ على هذه الأوهام السابقة واللاحقة كلّها ذكر حقيقة واحدة , وهي حقيقة معروفة مشهورة متواترة في الجاهلية والإسلام حتى عصرنا هذا , وهي معرفة مكان «بلاد هذيل» والذي أصبح كالعلم الواحد عند أهل العلم المتقدمين والمتأخرين , فعندما يقول العالم : هذا الموضع في «بلاد هذيل» , فإن الأذهان تتجه إلى ما جاور مكة من تهامة أو ما سال من السراة غرباً , ولكني توسعت في الردّ , لأن الأخ صالح تجاوز مرحلة الاستدلال بالأوهام إلى مرحلة أن يعيش في هذه الأوهام , فقد جمع عدداً من التصحيفات والأخطاء والأوهام ثم نسج على هذه الأوهام خارطة لا توجد إلا في ذهنه , ثم بقي سنوات وهو يلبّس بها على البسطاء , فكان لابدّ من الردّ عليه .
اليوم سوف أتكلّم على موضعين شهيرين , أمّا الموضع الأول وهو (الوحاف) وهي الجبال المعروفة بالقرب من (تثليث) قريب من (نجران) , والموضع الثاني وهو (عماية) وهو حصاة قحطان المعروفة في (جنوب نجد) , وهذه المواضع ليست من بلاد هذيل , ولم تكن يوماً من بلاد هذيل لا في الجاهلية ولا في الإسلام , ولولا ما ساقه الأخ صالح من التدليس والتلبيس ما رددت عليه , لبعد (الوحاف) و (عماية) عن بلاد هذيل .
قال صالح : «الوحاف موضع بنجد قريباً من عروى لم يرد في بلاد العرب غيره قال عنه البكري موضع في بلاد هذيل» .
قلت : أولاً : هذا الكلام ليس من كلام البكري إلا قول : «موضع في بلاد هذيل» .
ثانياً : بقية الكلام من الحصر والتحديد في نجد هذا من كيس الأخ صالح .
ثالثاً : هذا الموضع ليس في نجد , بل في جنوب الجزيرة العربية , في بلاد بني عقيل من هوازن بالقرب من (تثليث) , في جهة (نجران) .
رابعاً : لا يوجد في نجد موضع اسمه (الوحاف) , إلا ما أطلق وصفاً , قال ابن منظور : «والوحفة: أرض مستديرة مرتفعة سوداء ، والجمع وحاف» , قال ابن مالك : «والوحاف جمع وحفة : وَهِي الأكمة الْحَمْرَاء أَو الغبراء المائلة إِلَى سَواد , ووحاف مَوضِع» .
وكما قال ذو الرّمة :
تظل الوحاف الصدء فيها كأنها ... قراقير موجٍ غص بالساج قيرها
قال أبو نصر أحمد بن حاتم الباهلي (المتوفى: 231 هـ) شارح ديوان ذي الرمة : «الوحاف : الحجارة لا تبلغ أن تكون جبلاً. و«الصدء» : الحمر إلى السواد. ويروى: «تظل القنان الصدء .. »: وهي الآكام» .
وقول المخبّل يهجو بنى عبّشمس من بنى تميم :
أيا شرّ حىّ بين أجبال طيّىء ... وبين الوِحافِ السُودِ مِن سَروِ حِميَرا
«سرو حمير» من منازل حِمْيَر بأرض اليمن .
وقول الشريف الرضي :
دعا بالوحاف السود من جانب الحمى ... نَزِيعُ هَوًى ، لَبّيتُ حينَ دَعَاني
خامساً : تلبيس الأخ صالح بقوله : «بنجد قريباً عروى» , فيظن السامع أنها (عروى) التي في عالية نجد بقرب الدوادمي والشعراء , والتي هي من بلاد هوازن سابقاً واليوم , ولم تكن (عروى) التي في عالية نجد من بلاد هذيل لا في الجاهلية ولا في للإسلام , أمّا (عروى) التي ذكرها صالح في كلام البكري فهي موضع آخر في جنوب الجزيرة العربية , و هي التي بجوار (جبال القهر) .
سادساً : قام الأخ صالح -عفا الله عنه- بحذف بقيّة كلام البكري حتى لا ينكشف ويتبيّن تلبيسه ويتبيّن المكان الصحيح لـ(عروى) و (الوحاف) , وسأنقل كلام البكري وأناقشه .
قال أبو عبيد البكري (المتوفى: 487هـ) في «معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع» : «الوحاف بكسر أوّله، وبالفاء فى آخره: موضع فى بلاد هذيل، قد تقدم ذكره فى رسم عروى. وقد أضافه لبيد إلى القهر كما مضى فى رسم محجّر، وجعله المخبّل من سرو حمير، فهما إذن وحافان , قال المخبّل يهجو بنى عبّشمس من بنى تميم:
أيا شرّ حىّ بين أجبال طيّىء ... وبين الوِحافِ السُودِ مِن سَروِ حِميَرا
وقد يريد بالوحاف: جمع وحفة، لتخصيصه السّود، والوحفة: صخرة تكون فى جنب الوادى أو فى سند، ناتئة سوداء» . انتهى
ثم قال البكري أيضاً : «الوحفان : على لفظ تثنية وحف: موضع فى (بلاد عقيل) قال مزاحم بن الحارث بن مصرّف بن الأعلم، لابن عمّ أبيه الطّمّاح بن عامر بن الأعلم:
ألهى أباك فلم يفعل كما فعلوا ... أكل الذّباب من (الوحفين) والضرب» . انتهى
قلت :
أولاً : قام صالح في مشاركته بحذف قول البكري : (وقد أضافه لبيدٌ إلى القهر) من مشاركته , وقول لبيد رضي الله عنه في غاية الشهرة .
ولبيد هو أبو عقيل لَبيد بن ربيعة من بني عامر بن صعصعة من قبيلة هوازن صحابي جليل رضي الله عنه , وأحد الشعراء الفرسان الأشراف في الجاهلية والإسلام ، عمه ملاعب الأسنة وأبوه ربيعة بن مالك والمكنى «بربيعة المقترن» لكرمه .
قال لبيد رضي الله عنه ,
بِمَشَارِقِ الجَبَلَيْنِ أَوْ بِمُحَجَّرٍ ... فَتَضَمَّنَتْهَا فَـرْدَةٌ فَرُخَامُـهَا
فَصُوائِقٌ إِنْ أَيْمَنَتْ فَمَظِنَّـةٌ ... فِيْهَا (وِحَافُ القَهْرِ) أَوْ طِلْخامُهَا
ثانياً : قول البكري «موضع في بلاد هذيل» , هذا وهم من البكري لا شك في ذلك , إن لم يكن تصحّيف من غيره , من لفظ (عقيل) إلى (هذيل) فهما قريبتان في الرسم وبنو عقيل من هوازن أهل تلك الديار , أو تصحّف من (ذهل) إلى (هذيل) , فإنه قال في رسم (عروى) المقرونة بالوحاف : «فى بلاد بنى ذهل» وهذا الوهم والخطأ سواء كان من البكري أو من غيره , فهو على كلّ حال وهمٌ وخطأ مردودٌ , فليس (الوحاف) من بلاد هذيل ولم يكن يوماً , وقد صرّح البكري في بقيّة كلامه أن (الوحفين) من (بلاد عقيل) وهي (الوحاف) كما سيأتي .
ثالثاً : البكري رحمه الله أخطأ ففرق بين الوحاف و الوحفين , وهما موقع واحد , ذكرهما الشاعر نفسه بالتثنية وبالجمع , ولا زالت إلى اليوم تثنّى وتجمع , والعامة اليوم يقولون في التفصيل : (الوحف) و (الوحيف) , ويقولون في الجمع : (الوحاف) , ثم إن البكري قال : «الوحفان : على لفظ تثنية وحف : موضع فى (بلاد عقيل) , قال مزاحم بن الحارث بن مصرّف بن الأعلم، لابن عمّ أبيه الطّمّاح بن عامر بن الأعلم:
ألهى أباك فلم يفعل كما فعلوا ... أكلُ الرّباب من (الوحفين) والضرب» . انتهى
قلت : البيت الذي استدل به البكري على (الوحفين) هو لمزاحم العقيلي وهو من بني عقيل بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة ، وقد ذكر مزاحم أيضاً (الوحاف) بصيغة الجمع , مما يدل على أنهما موضع واحد ,
فقال مزاحم العقيلي عندما قتل رجل من بني جعدة من هوازن في قصة له :
أتاني بقرطاس الأمير مغلّس ... فأفزع قرطاس الأمير فؤاديا
فقلت له: لا مرحبا بك مرسلا ... إليّ ولا لبّي أميرك داعيا!
أليست جبال القهر قعسا مكانها، ... وعروى و(أجبال الوحاف) كما هيا؟
وهذه المواضع التي ذكرها مزاحم لا زالت معروفة إلى اليوم بأسمائها وهي متجاورة , قال الهمداني (المتوفى: 334هـ) في صفة جزيرة العرب : «ثم حمى والوحاف وبئر الربيع ثم مذود من أسفل نجران»
قلت : جبال (الوحاف) وهما جبلان (الوحف) و(الوحيف) في سهلة أسفل وادي (تثليث) تبعد شمالا عن تثليث 50 كيلا تقريباً , يحفهما وادي تثليث من جهة الغرب , وهي اليوم في بلاد قحطان .
ذكر أبو علي الهجري (المتوفى: نحو 300هـ) في «التعليقات والنوادر» أن والوحاف تسمّى (وحاف القهر) و (وحفة القهر) و (وحاف العتيك) و (وحاف الصيد) , قلت : لعل (وحاف الصيد) تصحّف على المحقق رحمه الله من (وحاف الصدء) وَهِي الأكمة الْحَمْرَاء أَو الغبراء المائلة إِلَى سَواد , كما قال ذو الرّمة :
تظل الوحاف الصدء فيها كأنها ... قراقير موجٍ غص بالساج قيرها .
قال أبو علي الهجري في «التعليقات والنوادر» : «عروى هضبة نحو (ماسل) وليست بعروى التي قرب (وحفة القهر) هذه امنع واشمخ» .
وقال أبو علي الهجري أيضاً في «التعليقات والنوادر» : «الوحفة بلد أسفل نجران» .
قال لبيد رضي الله عنه ,
بِمَشَارِقِ الجَبَلَيْنِ أَوْ بِمُحَجَّرٍ ... فَتَضَمَّنَتْهَا فَـرْدَةٌ فَرُخَامُـهَا
فَصُوائِقٌ إِنْ أَيْمَنَتْ فَمَظِنَّـةٌ ... فِيْهَا (وِحَافُ القَهْرِ) أَوْ طِلْخامُهَا
قال الأنباري (ت 328هـ) في شرح قصيدة لبيد بن ربيعة «شرح القصائد السبع الطوال الجاهليات» : «ووحاف القهر: موضع. وقال أبو جعفر: الوحاف: إكام صغار إلى جانب القهر، والقهر: جبل. وواحد الوحاف وحفة ووحف».
قال التبريزي (المتوفى: 502هـ) في «شرح القصائِد العشر» : «والوحاف: إكام صغار إلى جانب القهر، والقهر: جبل، وواحد الوحاف وحفة ووحف» .
يقول ابن بليهد رحمه الله في «صحيح الأخبار» : «ومما دل على ان القهر الذي ذكره لبيد واقع في بلاد قحطان في الجهة اليمانية قول لبيد {ان ايمنت} فقد جعل القهر يمانيا وهو واقع في بلاد قحطان والقهر معروف بهذا الاسم الى هذا العهد ومعدن البارود الذي بها : معروف بقوة انتزاعه من البندقية واصابته للفريسة وفي ذلك يقول شاعرأعرابي في ابيات له نبطية وهو شاعر معروف عند عامة أهل نجد يقال له : مخلد القثامي :
يالايمي يضرب على حد الأبهر... ياخذ الى حوله صوابه مجيفي
بمثومن حاديه خفان و عشر ... وملح (القهر) وبواردي ظريف» انتهى
قَالَ الصحابي الجليل النَّابِغَة الْجَعْدِي رضي الله عنه , وهو من بني جعدة بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن :
تَحُلُّ بِأطْرَافِ (الوِحافِ) ودونَها ... حَوِيلٌ فَرَيْطَاتٌ فَرَعْمٌ فَأخْرَبُ
قلت : وبهذا يتبيّن أن (الوحاف) كان من بلاد هوازن , وأنه في غاية البعد عن بلاد هذيل .
فلعل البكري اختلط عليه باسم آخر , فقد ذكر ياقوت الحموي مكاناً اسمه مقارب لعلّه المراد , قال ياقوت الحموي (المتوفى: 626هـ) في « معجم البلدان» : «وَحِيفٌ : بالفتح ثم الكسر، قال أبو عمرو: الوحاف من الأرضين ما وصل بعضه ببعض، والوحيف مثل الوصيف وهو الصوت: وهو موضع كانت تلقى فيه الجيف بمكة» .
أمّا قول الأخ صالح : «فتتوسطها من ديار هذيل , جلجل , اوطاس , المحاني , الربى , نبائع , كراش , الركايا , الرجاز , عيون , الرحى , الوحاف , خنثل , عماية , والله أعلم» , فهذه كانت أماني عند الأخ صالح , ولكنها تبخّرت فقد تبيّن فساد قوله في الردود السابقة عليه في تلك المواضع .
أمّا قوله : «والوحاف وخنثل وعماية جبال مشتركة بينهم وبين بنو عامر بن صعصة» , فقد بيّنت في ردّ سابق أن (خنثل) تصحّف عليه من (كنثيل) و (خنثل) وادي وليس جبلا , وذكر هذا الكلام وحكاته تغني عن الردّ عليه , فليس هذا من باب الخيال والفنتازيا , بل هذا من باب الهرطقة والسفسطة في هذا الفن .
(عماية)
أمّا قوله : «عماية جبل بنجد قريب من عسيب وخنثل , لم يرد مسماه في غير نجد قال صاحب خزانة الأدب عماية جبل من جبال هذيل» , فهذا مردود نقلاً وعقلاً , لم أرَ مثل هذه التخبطات , فكيف جعل هذه الأماكن المتباينة من تهامة إلى جنوب نجد إلى وسطه متقاربة متجاورة ؟!! , ولكن من تكلّم في ما لا يحسن أتى بالعجائب , وهذا الموضع (عماية) ودعوى أنه من بلاد هذيل مثله مثل سائر المواضع التي سبق وادّعى صالح أنها من بلاد هذيل , إنمّا هي أخطاء وأوهام ردّ عليها أهل العلم , فقد تتابع اللغويون والمتأخرون خلف قول السكري : «عماية جبل بالبحرين من جبال هذيل» , فمنهم من اقتصر على ذكر البحرين ومنهم من اقتصر على ذكر هذيل , ومنهم من ذكرها كاملة , كما قال الميداني النيسابوري (المتوفى : 518هـ) في مجمع الأمثال : «أثقل من عماية هي جبل بالبحرين من جبال هذيل» , وأين (البحرين) و (عماية) من بلاد هذيل ؟!!! , بل البلدانيون لم يلتفتوا إلى قوله (من جبال هذيل) كما سيأتي .
ولا شك أن هذا خطأ واضح ووهم قبيح , مردود سواء كان كلام السكري أو غيره بكلام من هم أعرف وأوثق , فجبل (عماية) أو (عمايتان) يفرد ويثنّى ليس من بلاد هذيل لا في الجاهلية ولا في الإسلام , فبلاد هذيل تقع في تهامة , وتقع (عماية) في جنوب نجد .
قلت سأذكر أقوال البلدانيين , فهذا ياقوت يذكر جميع الأقوال عن موضع (عماية) ولم يذكر أنها من بلاد هذيل , لعلمه ببعد ذلك أو يقينه بخطأ السكري , مع نقله عنه قوله الآخر (جبل معروف بالبحرين) .
قال ياقوت الحموي (المتوفى: 626هـ) في : معجم البلدان «عَمَايَتَانِ : تثنية عماية، بفتح أوله، وتخفيف ثانيه، وبعد الألف ياء مثناة من تحت، وباقيه للتثنية، وعماية ويذبل: جبلان بالعالية، وثني عماية وهو جبل كما ثني رامتان، قال جرير:
لو أنّ عصم عمايتين ويذبل ... سمعت حديثك أنزلا الأوعالا
قال أبو عليّ الفارسي: أراد عصم عمايتين وعصم يذبل فحذف المضاف».
وقال : «عَمَايَة : بفتح أوله، وتخفيف ثانيه، وياء مثناة من تحت : اسم جبل، يجوز أن يكون من العما وهو الطول، يقال: ما أحسن عما هذا الرجل أي طوله، ويجوز أن يكون من عمى يعمى إذا سأل، والعمي مثال الظبي: دفع الأمواج القذى والزبد من أعاليها، وقيل: العماية الغواية وهي اللجاجة، والعماية : السحابة الكثيفة المطبقة .
وقال نصر: عمايتان جبلان، عماية العليا اختلطت فيها الحريش وقشير والعجلان، وعماية القصيا هي لنهم شرقيها كله ولباهلة جنوبيها وللعجلان غربيها، وقيل: هي جبال حمر وسود سميت به لأن الناس يضلون فيها , يسيرون فيها مرحلتين .
وقال السكري: عماية جبل معروف بالبحرين، قاله في شرح قول جرير يخاطب الحجاج فقال :
وخفتك حتى استنزلتني مخافتي ... وقد حال دوني من عماية نيق
يسرّ لك البغضاء كل منافق ... كما كل ذي دين عليك شفيق
وقال أبو زياد الكلابي: عماية جبل بنجد في بلاد بني كعب للحريش وحق والعجلان وقشير وعقيل، قال : وإنما سمي عماية لأنه لا يدخل فيه شيء إلا عمي ذكره وأثره، وهو مستدير، وأقل ما يكون العرض والطول عشرة فراسخ، وهي هضبات مجتمعة متقاودة حمر، ومعنى متقاودة متتابعة، فيها الأوشال وفيها الآوى وفيها النمر، وأكثر شجرها البان ومعه شجر كثير وفيه قلال لا تؤتي أي لا تقطع .
قال السكري: قتل القتال الكلابي واسمه عبد الله بن مجيب رجلا وهرب حتى لحق بعماية، وهو جبل بالبحرين، فأقام به، قيل: عشر سنين، وأنس به هناك نمرا فكان إذا اصطاد النمر شيئا شاركه القتال فيه وإذا اصطاد القتال شيئا شاركه النمر فيه إلى أن أصلح أهله حاله مع السلطان وأراد الرجوع إلى أهله فعارضه النمر ومنعه من الذهاب حتى همّ بأكله، فخاف على نفسه فضربه بسهم فقتله، وقال فيه :
جزى الله خيرا، والجزاء بكفه، ... عماية عنّا أمّ كلّ طريد» . انتهى كلام ياقوت .
أمّا قول البكري فهو أشدّ تخبطاً في مكانها , ومع ذلك لم يجعلها من بلاد هذيل .
قال أبو عبيد البكري (المتوفى: 487هـ) في «معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع» : «عماية بفتح أوّله، وبالياء أخت الواو، على لفظ فعالة من العمى: جبل بالبحرين ضخم، ولذلك قيل فى المثل: أثقل من عماية. وقد تقدم ذكره فى رسم الرّكاء ورسم صاحة، وسيأتى ذكره فى رسم سحام ، قال سلامة بن جندل:
له فخمة ذفراء تنفى عدوّه ... كمنكب ضاح من عماية مشرق
فأمّا قول جرير:
ولو أنّ عصم عما يتين ويذبل ... سمعا بذكرك أتزلا الأوعالا
فإنّه أراد عماية وصاحة، وهما جبلان، فسمّاهما عمايتين».
قلت : ويتبيّن تناقض كلام البكري كما نبه عليه الأستاذ سعد ابن جنيدل بالرجوع إلى رسم (الرّكاء) و (سحام) و (صاحة) , و لم تكن (عماية) أو (عمايتان) من بلاد هذيل بل كانت من بلاد هوازن في الجاهلية والإسلام إلى العصور المتأخرة فأصبحت من بلاد قحطان .
قال أبو علي الهجري (المتوفى: نحو 300هـ) في «التعليقات والنوادر» (1/27) : «عماية جبل، ضخم أعظم جبال (نجد) , أعظم من ثهلان , ومن قطنين ، وعماية برمل السرة بين سواد باهلة وبيشة» .
قال لغدة في «بلاد العرب» (234) وهو يذكر بعض منازل هوازن : «ولبني قشير وغيرهم : من الجبال «عمايتان» أحدهما للحريش , والأخرى لنُهْم وهم بنو عبد الله بن كعب إخوة العجلان» .
قال نصر (المتوفى : 561هـ) في «الأمكنة والمياه» (2/271) : «عمايتان جبلان ، عماية العليا , اختلطت فيها الحريش وقشير والعجلان ، وعماية القصيا , هي لنُهم شرقيها كله , ولباهلة جنوبيها , وللعجلان غربيها ، وقيل: هي جبال حمر وسود سميت به لأن الناس يضلون فيها , يسيرون فيها مرحلتين» .
ومكان (عماية) أو (عمايتان) التي اسمها اليوم (حصاة قحطان) في جنوب غرب محافظة القويعية بمسافة 150 كيلا وهي عبارة عن جزئين الحصاة الدنيا (شمال الحصاة) والحصاة القصوى (جنوب الحصاة) والمسافة بينهما أربعون كيلومتراً تقريباً .
وقد ردّ على أبي سعيد السكري في كلامه السابق , وعلى الهمداني الشيخ حمد الجاسر رحمه الله في «معجم المنطقة الشرقيّة» (البحرين قديماً) (3/1184) في رسم (عماية) فقال : «وأراه وهماً من السكري , فعماية على ما ذكر من هو أوثق من السكري وأعرف بمواضع الجزيرة , في نجد , وموقعها لا يزال معروفاً , وتعرف باسم الحصاة -حصاة قحطان- وقد حدد موقعها الأستاذ سعد ابن جنيدل في كتاب «عالية نجد» أحد أقسام «المعجم الجغرافي للبلاد العربية السعودية» تحديداً صائباً- وهما عمايتان .
أمّا الهمداني فقوله بأن عمايتين في بلاد البحرين مبنيّ على أن امرأ القيس من كندة , وبلاد كندة في البحرين قبل أن تنتقل إلى اليمن , وفاته أنه حدّد موقعها تحديداً صحيحاً , كما فاته أن امرأ القيس عاش في نجد وأكثر المواضع الواردة في شعره تقع في نجد وما حولها» . انتهى
قلت : كلام الأستاذ سعد ابن جنيدل في كتاب «عالية نجد» (377/1)
وكانت (عماية) من مرابّ الصيد وخاصة العُصم وهي الوعول التي تعتصم برؤس الجبال , لذا تمثل بـ(عماية) كثير من الشعراء سواء من هوازن أهلها أو غيرهم , وكذلك ضربوا المثل بثقلها (أثقل من عماية) , لذا تمثل بذلك الشعراء أيضاً .
قال لبيد بن ربيعة رضي الله عنه :
فَحَدَّرَ العُصْمَ مِنْ عَمَايَة َ للسّهْـ ... ـلِ وَقضَّى بصاحَةَ الأرَبا
قال أبو حية النميري :
عشيّةَ صيِّفٍ وتَضمَّنتْهُ ... رِهاءٌ من عَمايةَ أو حوامي
قال الراعي النميري :
تهوي بهنّ من الكدريّ ناجية ... بالروض روض عمايات لها ولد
وقالت ليلى ترثي توبة بن الحمير الخفاجي:
نظرتُ ودوني من عماية منكبٌ ... وبطنِ الركاءِ أيَّ نظرةَ ناظرِ
قال البكري بعد بيت ليلى في رسم (الركا): وهى كلها في ديار بنى عقيل.
قال جرير:
إنّ العدوّ إذا رموك رميتهم ... بذرى عماية أو بهضب سواج
قال امرؤ القيس :
أقب رباع من حمير عماية ... يمج لعاع البقل في كل مشرب
قال سلامة بن جندل :
له فخمة ذفراء تنفى عدوه ... كمنكب ضاح من عماية مشرق
قال مالك الباهلي :
فدعْ ذا ولكنْ هلْ أتاها مُغارُنا ... بذاتِ العراقِي إذْ أتاها نذيرُها
بملمومةٍ شهباءَ لوْ نطحُوا بها ... عمايةَ أوْ دمخاً لزالتْ صخورُها
قال عمرو بن لجأ :
هَرِيتاً كجَفْرٍ من عَمايةَ آجِنٍ ... صَراهُ أثارَتْهُ الأكفُّ فأزبَدا
قال الفرزدق :
يصدعنَ ضاحيةَ الصفا عنْ متنهِ ... ولهنَّ منْ جبلي عمايةَ أثقلُ
وقال المرقش الأكبر أيضاً:
في باذخاتٍ من عمايةَ أو ... يرفعُهُ دونَ السّماءِ خيمْ
قال ذو الرمة :
ولو كلّمت مستوعلا في عماية ... تصبّاه من أعلى عماية قيلها
قال جرير:
لو إن عصم عَمايَتين ويذبل ... سَمِعا حديثَك أَنزلا الأوعالا
وقال جرير:
ولو كنت في نجران أو بعماية ... إذن لأتاني من ربيعة راكب
أمّا حجة صالح بأن هذا المكان لا يعرف في الحجاز فهي حجة ضعيفة , فكم من موضع قال صالح عنه لا يُعرف وهو بجواره ولم يعرفه , فليس الأخ صالح حجة في نقله ولا مرجعاً في حكمه , وعلى فرض صحة القول بعدم معرفة هذا الموضع في تهامة , فهذا أيضاً لا ينفي وجوده فيها , فكم من موضع بقي اسمه ولا يُعرف اليوم مكانه , ثم هذا ليس مسوّغاً للأخ صالح للقفز على الأسماء المشابهة , قال الهمداني (المتوفى : 334هـ) في صفة جزيرة العرب (112): «وبار وهي أرض كانت بها أمم من العرب العاربة ولم ألق من يعرفها» , فهنا في القرن الرابع لم يعرف الهمداني (وبار) ولم يجد من العلماء والناس من يعرفها , مع ذكرها في الأشعار والأخبار ، على أنها بلاد كبيرة وعظيمة على ما يدلّ عليه كلام أهل العلم وقول الهمداني (كانت بها أمم من العرب) يدل على ذلك ، فلم يخترع أحداً بلداً لهذا الاسم كما يصنع الأخ صالح غفر الله له .