24‏/07‏/2020

لماذا تبغض من لا تعرفه ، وما سبب ذلك ودلالته




                                   


                                        بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على جميع الأنبياء والمرسلين ، وعلى سيّدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

هذه كلمات قليلة متناثرة جمعتها تحت عنوان واحد ، وهي مسألة ( محبتنا أو بغضنا لشخصٍ لا نعرفه) وهل لهذا الفعل سببٌ ؟ ، وأيضاً هل لهذا الفعل دلالة ؟

بداية ؛ الكلام هنا عن الحب أو البغض الذي ليس له سببٌ شرعيّ أو طبعيّ أو سببٌ ناتج عن تعاملٍ أو شكلٍ وصورة .

قد يظن بعض الناس بما أنه ليس له سببٌ ظاهرٌ ، فإنّه ليس له سببٌ آخر ، وهذا خطأ ، فالحقيقة إنّ لهذا الحب أو البغض سبباً أكيداً أخبر به الصادق المصدوق ، رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وله دلالة فهمها أصحابُ محمد صلى الله عليه وسلم والسلفُ الصالح .

والصحيح أن هذا الحب والائتلاف نشأ عن معرفة سابقة بين روحيهما -أي المحب والمحبوب- ، فانجذب كلٌ إلى شكله وشبيهه ، وهذه أيضاً الدلالة الخطيرة التي فهمها الصحابةُ الكرام والسلف الصالح ، بل ورد أن هذا التعارف أمرٌ معروف حتى عند المشركين قبل الإسلام .


قال طَرَفَةُ بن العبد :
 تَعَارَفُ أَروَاحُ الرِّجَالِ إِذَا التَقَوا
فَمِنهُم عَدُوٌّ يُتَّقَى وَخَلِيلُ


وذُكِرَ لبقراط كما سيأتي أن رجلاً من أهل النقص يُحبُّه فاغتمّ لذلك ، وقال : ما أحبني إلا وقد وافقتُه في بعض أخلاقه .

أمّا قول النبي صلى الله عليه وسلم فقد جاء في صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ، يقول : الأرواح جُنودٌ مجنّدة فما تعارف منها ائتلف ، وما تناكر منها اختلف .


وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : الأرواح جنودٌ مجنّدة ، فما تعارف منها ائتلف ، وما تناكر منها اختلف .


وروى مسددٌ في مسنده بسند صحيح كما في المطالب العالية للحافظ (‏3514‏)  عن عبد الله بن مسعود , قال : الأرواح جنود مجندة , تلتقي (وتتشامّ كما تشامّ الخيل) فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف .
قال الحافظ ابن حجر في المطالب : موقوف صحيح ، وقال الألباني : صحيح .



 وعند الطبراني في الأوسط وغيره بسندٍ حسن لغيره  (5363) سؤال عمر بن الخطاب لعلي بن أبي طالب عن الرجل يحب الرجل ولم ير منه خيرا ، والرجل يبغض الرجل ولم ير منه شرا ؟ فقال: إن الأرواح في الهواء جنود مجندة تلتقي (فتشامّ) فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف .



وجاء ما يوضح معنى حديث عائشة رضي الله عنها ، ويشرحه ، ففي رواية المسند لأبي يعلى الموصلي  (‏4265‏) عن عمرة بنت عبد الرحمن قالت : كان بمكة امرأة مزاحة فنزلت على امرأة مثلها ، ولا تعرف تلك المرأة ، فبلغ ذلك عائشة ، فقالت : صدق حبي ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : الأرواح جنود مجندة ، فما تعارف منها ائتلف ، وما تناكر منها اختلف .


جاء هذا الحديث عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم ، منهم علي بن أبي طالب وابن مسعود وسلمان الفارسي وابن عمر وابن عباس وأبي الطفيل الليثي.


وروى الإمام أحمد في مسنده (6464) والبخاري في الأدب المفرد (268) والطبراني في المعجم الكبير (13589) بسندٍ فيه ابن لهيعة، عن عبد الله بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن أرواح المؤمنين تلتقي على مسيرة يوم ، ما رأى أحدُهم صاحبَه قط .
وقد رواه عن ابن لهيعة أحد العبادلة ، وهو عبد الله ابن وهب كما في الجامع في الحديث (‏178‏) بلفظ: إن روحَيّ المؤمنَينِ ليلتقيان على مسيرة يوم وما رأى أحدهما صاحبه قط .
وهذا سندٌ حسن عند من يحسّن رواية العبادلة عنه .



 قال أبو سليمان الخطابي رحمه الله في أعلام الحديث (شرح صحيح البخاري) (3/1530) : هذا يتأول على وجهين : 
أحدهما : أن يكون إشارة إلى معنى التشاكل في الخير والشر ، والصلاح والفساد ، فإن الخيّر من الناس يحن إلى شكله ، والشرير يميل إلى نظيره ومثله ، والأرواح إنما تتعارف بضرائب طباعها التي جُبَلت عليها من الخير والشر ، فإذا اتفقت الأشكال تعارفت وتآلفت ، وإذا اختلفت تنافرت وتناكرت ؛ ولذلك صار الإنسان يُعرفُ بقرينهِ ، ويعتبر حاله بإلفه وصحبه . 
والوجه الآخر : أنه إخبار عن بدء الخلق في حال الغيب على ما روي في الأخبار أن الله عز وجل : خلق الأرواح قبل الأجسام ، وكانت تلتقي فتشام كما تشام الخيل ، فلما التبست بالأجسام تعارفت بالذكر الأول فصار كلٌ منهما إنما يعرف وينكر على ما سبق له العهد المتقدم ، والله أعلم .ا.هـ


وفي فتح الباري لابن حجر (6/370) : قال بن الجوزي : ويستفاد من هذا الحديث أن الإنسان إذا وجد من نفسه نفرةً ممن له فضيلة أو صلاح ، فينبغي أن يبحث عن المقتضي لذلك ليسعى في إزالته ، حتى يتخلص من الوصف المذموم وكذلك القول في عكسه .


وقال البغوي في شرح السنة (13/57) :
وفي الحدِيث بَيَان أن الأرواح خُلقت قبل الأجساد، وأنّها مخلوقة على الائتلاف وَالِاختلاف ، كالجنود المجنّدة إذا تقابلت وتواجهت، وذلك على ما جعلها الله عليه من السَّعَادَة والشقاوة، ثمّ الأجساد الّتي فِيهَا الأرواح تلتقي في الدّنيا، فتأتلف وتختلف على حسب ما جُعلت عليه من التشاكل والتناكر في بدء الخلق، فترى البر الخيّر يحب مثله، والفاجر يألف شكله، وينفرُ كلٌ عَن ضِدّه.
وَفِيه دَلِيل على أن الأرواح ليست بأعراض، أنّها قد كانَت موجودة قبل الأجساد، وأنّها تبقى بعد فناء الأجساد، كما أخبر النَّبِي صلّى الله عليه وسلّم عن الشّهداء: «أَن أرواحهم في جوف طير خضر، تسرح من الجنَّة حيث شَاءَت».ا.هـ
.
وقال أبو العباس القرطبي في المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (6/646) : ويستفاد من هذا الحديث أن الإنسان إذا وجد من نفسه نفرةً ممن له فضيلة أو صلاح فتش على الموجب لتلك النفرة ، وبحث عنه بنور العلم ؛ فإنَّه ينكشف له ، فيتعيّن عليه أن يسعى في إزالة ذلك ، أو في تضعيفه بالرياضة السياسية ، والمشاهدة الشرعية حتى يتخلص من ذلك الوصف المذموم ، فيميل لأهل الفضائل والعلوم ، وكذلك القول فيما إذا وجد ميلا لمن فيه شر ، أو وصف مذموم. 



وروى الطبراني في المعجم الكبير (6046) والبزار في مسنده (2315) عن الحارث بن عميرة قال : انطلقت حتى قدمت على سلمان بالمدائن فلما سلّمتُ عليه قال : مكانك حتى أخرج إليك ، قال الحارثُ : والله ما أراك تعرفني يا أبا عبد الله ، قال : بلى ، عرفتْ روحي روحَك قبل أن أعرفك ، إن الأرواح عند الله جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها في غير الله اختلف.


وفي مصنف ابن أبي شيبة  (‏25154‏) بسندٍ رجاله ثقات ، عن ميمون ، أن رجلا سلّم على سلمان الفارسي ، فقال : السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته ، فقال : سلمان : حسبك ، ثم رد على الذي قال , ثم أراد أخرى فقال له الرجل : أتعرفني يا أبا عبد الله ؟ فقال : أما روحي فقد عرفت روحك .


وفي الإبانة الكبرى لابن بطة  (‏503‏)عن ميمون بن مهران , قال : لقي سلمان رجلا , فقال : أتعرفني ؟ قال : لا , ولكن عرفت روحي روحك .


وفي شرح أصول الاعتقاد (‏234‏)  قال : وسمعتُ الفضيل يقول : الأرواح جنود مجندة , فما تعارف منها ائتلف , وما تناكر منها اختلف , ولا يمكن أن يكون صاحب سنة يمالئ صاحب بدعة إلا من النفاق .


قال ابن بطة في الإبانة الكبرى (‏430‏) بعد هذا الكلام  : صدق الفضيل رحمة الله عليه , فإنا نرى ذلك عيانا.



وفي المستدرك للحاكم (5713) وحلية الأولياء لأبي نعيم  (‏14815‏) ،وشرح أصول الاعتقاد ، كرامات الأولياء لللالكائي (‏2386‏) واللفظ لأبي نعيم ، قال : لقي هرمُ بن حيّان أويساً القرني فقال : السلام عليك يا أويس بن عامر ، قال : وعليك يا هرم بن حيّان ، فقال : أما أنا فعرفتك بالصفة ، فكيف عرفتني ؟ ، قال : عرفتْ روحي روحك ؛ لأن أرواح المؤمنين تشام كما تشام الخيل فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف .




وفي الإبانة الكبرى لابن بطة (‏504‏) بسند ليّن  عن مجاهد , قال : نظر ابن عباس إلى رجل فقال : إن ذاك ليحبني قال : قيل له : يا أبا عباس وما يدريك ؟ قال : لأني أحبه , إن الأرواح جنود مجندة , فما تعارف منها ائتلف , وما تناكر منها اختلف.


وفي اعتلال القلوب للخرائطي (‏450‏) عن عبد الله بن مسعود قال : لا تسألن امرءا عن وده ، وانظر ، ما له في قلبك ، فإن لك في قلبه مثل ذلك.


وفي مصنف عبد الرزاق الصنعاني (‏7640‏ ) بسندٍ صحيحٍ  عن ابن مسعود قال : اعتبروا الناس بالأخدان ، فإن الرجل لا يخادن إلا من رضي نحوه أو حاله. 
وفي لفظ : اعتبروا الناس بأخدانهم , المسلم يتبع المسلم , والفاجر يتبع الفاجر .




قال ابن القيّم في كتاب الروح (54) : وقد تتناسب الروحان وتشتدّ علاقة إحداهما بالأخرى، فيشعر كل منهما ببعض ما يحدث لصاحبه، وإن لم يشعر بما يحدث لغيره ، لشدة العلاقة بينهما، وقد شاهد الناس من ذلك عجائب.


وقال أيضاً ابن القيم رحمه الله في روضة المحبين في سياق كلامه على هذا الحديث (115) : وذُكِرَ لبقراط رجل من أهل النقص يحبه فاغتمّ لذلك ، وقال: ما أحبني إلا وقد وافقتُه في بعض أخلاقه،  وأخذا المتنبي هذا المعنى فقلبه ، وأجاد،  فقال :
وإذا أتتك مذمتي من ناقص
فهي الشهادة لي بأني فاضل


وقال بعض الأطباء العشق امتزاج الروح بالروح لما بينهما من التناسب والتشاكل ، فإذا امتزج الماء بالماء امتنع تخليص بعضه من بعض ، ولذلك تبلغ المحبة بين الشخصين حتى يتألم أحدهما بتألم الآخر ويسقم بسقمه وهو لا يشعر، ويُذكر أن رجلا كان يحب شخصا فمرض فدخل عليه أصحابه يعودونه فوجدوا به خفة فانبسط معهم وقال : من أين جئتم ؟ ، قالوا : من عند فلان عدناه ، فقال : أو كان عليلا ؟ ، قالوا : نعم ؛ وقد عوفي ، فقال : والله لقد أنكرت علتي هذه ولم أعرف لها سببا ، غير أني توهمت أن ذلك لعلة نالت بعض من أحب ، ولقد وجدت في يومي هذا راحة ففرحت طمعا أن يكون الله سبحانه وتعالى شفاه ، ثم دعا بدواة فكتب إلى محبوبه :
إني حُممتُ ولم أشعر بحُمّاك
حتى تحدث عوادي بشكواك
فقلت ما كانت الحُمّى لتطرقني
من غير ما سببٍ إلا لحُمّاك
وخصلة كنت فيها غير متهم
عافاني الله منها حين عافاك


ويُحكى أن رجلا مرضَ من يُحبه فعاده المحبُ فمرضَ من وقته فعوفي محبوبه فجاء يعوده فلما رآه ، عوفي من وقته ، وأنشد :
مرض الحبيب فعدته
فمرضتُ من حذري عليه
وأتى الحبيب يعودني
فبرئت من نظري إليه


وأنت إذا تأملت الوجود لا تكاد تجد اثنين يتحابان إلا وبينهما مشاكلة أو اتفاق في فعل أو حال أو مقصد ، فإذا تباينت المقاصد والأوصاف والأفعال والطرائق لم يكن هناك إلا النفرة والبعد بين القلوب ، ويكفي في هذا الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر.
.
.
قال ابن بطة في الإبانة (269) بعد أن روى بسنده قول ابن مسعود : الأرواح جنود مجندة , تلتقي (وتتشامّ كما تشامّ الخيل) فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف ، قال : وكذا قالت شعراء الجاهلية . 
قَالَ طَرَفَةُ :
 تَعَارَفُ أَرْوَاحُ الرِّجَالِ إِذَا التَقَوا
فَمِنهُم عَدُوٌّ يُتَّقَى وَخَلِيلُ.ا.هـ


قلتُ : هو طَرَفَةُ هو ابن العبد ، وقد تناول الشعراء بعد ذلك هذا المعنى من تلاقي الأرواح وائتلافها لمن تعرفه.

 فقال قيس بن ذريح :
 تعلق روحي روحها قبل خلقنا
 ومن بعد ما كنا نطافا وفي المهد
 فزاد كما زدنا فأصبح ناميا
 فليس وإن متنا بمنفصم العهد
 ولكنه باق على كل حادث
 وزائرنا في ظلمة القبر واللحد
 يكاد  فَضِيضُ الماء يخدش جلدها
 إذا اغتسلت بالماء من رقة الجلد



وقال جميل بن معمر العذري :
أظل نهاري مستهاما وتلتقي
مع الليل روحي في المنام وروحها



وفي المرض والكفارات لابن أبي الدنيا(‏257‏) : قال عبد الرحمن بن مقرن : قال لي الطبيب وسقاني شربة من دواء : إياك ومجالسة الثقيل فإنا نجد في كتب الطب أن مجالسة الثقيل حُمّى الروح ، ثم أنشد عبد الرحمن في ذلك :
 تمرضُ الأرواحُ من رؤيته
 فتغشّاها نعاسٌ وكسل
 وإذا قابل قفا وجهه
 لهلال ليلة لم يستهل



قال أبو الطيب المتنبي :
أُصادِقُ نَفسَ المَرءِ مِن قَبلِ جِسمِهِ
وَأَعرِفُها في فِعلِهِ وَالتَكَلُّمِ 



وقال الآخر:
وقائل لي : لم تفارقتما ؟
فقلت قولاً فيه إنصافُ
لم يك من شكلي ففارقته
و الناس أشكالٌ واُلّافُ



وقال بعض الشعراء:
إن القلوب لأجناد مجندة
لله في الأرض بالأهواء تعترف
فما تعارف منها فهو مؤتلف
وما تناكر منها فهو مختلف



وأورد ابن حبان في روضة العقلاء و نزهة الفضلاء (109) قول الأبرش :
وللشيء على الشيء
مقاييس وأشباه
وللروح على الروح
دليل حين يلقاه



وأنشد المنتصر بن بلال الأنصاري:
يزين الفتى في قومه وَيشينه
وفي غيرهم : أخدانُه ومَداخُلُهْ
لكل امرئ شكلٌ من الناس مثله
وكل امرئٍ يهوى إلى من يشاكله



وقال أبو تمام :
وقلتُ أخي، قالوا أخٌ من قرابة ٍ ؟
فقلتُ لهم : إنّ  الشُّكولَ أقارِبُ




وقال الآخر:
بيني وبينك في المحبة نسبة
مستورة في سرّ هذا العالم
نحن الذين تحاببت أرواحنا
من قبل خلق الله طينة آدم



قلتُ : خلق الأرواح قبل الأجساد ثابت بالكتاب والسنة والإجماع ، وهي مخلوقة حادثة ، أمّا قول صاحب كتاب غاية الأماني في الرد على النبهاني (2/109) :  القول بتقدم خلق الأرواح على الأجساد غير مرضي عند السلفيين ، يشير إلى ما ذكره ابن القيّم رحمه الله وبعض المتأخرين ، وهو قول تردّه آية الميثاق وحديث أنس في الصحيح والإجماع ، أمّا قولهم عن آية الميثاق : إنها لم تُخلق خلقا مستقرا مستمرا ، يقال : أولاً : إن هذا فيه إقرار بخلق الأرواح قبل الأجساد ، ثانياً : إن هذا قول والتقييد لا دليل عليه ، أمّا الطعن في الإجماع الذي نقله ابن حزم عن إسحاق ، بإنه إجماع على أن الروح مخلوقة ، وليس إجماعا على أن الروح خلقت قبل الجسد ، فهذا مردود ، وقد نقل هذا الإجماع شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في  درء تعارض العقل والنقل (8/414) : قال اسحاق أجمع أهل العلم أنها الأرواح قبل الأجساد استنطقهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى فقال انظروا إلا تقولوا إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إنما اشرك به أباؤنا من قبل .
ولم يتعقبه شيخ الإسلام .
ونقله أيضا ابن القيم في شفاء العليل (249) ، وقال في أحكام أهل الذمة (2/1057) بعد أن نقل قول إسحاق السابق في الإجماع ، قال ابن القيّم : فإسحاق - رحمه الله تعالى - قال بما بلغه ، وانتهى إلى علمه ، وليس ذلك بإجماع ، فقد اختلف الناس : هل خلقت الأجساد قبل الأرواح، أومعها ؟ على قولين حكاهما شيخنا وغيره.ا.هـ


قلتُ : ولم يذكر -رحمه الله - من هؤلاء الناس الذين اختلفوا ، لن أطيل الكلام في مسألة تقدم خلق الأرواح ، فأدلتها من الكتاب والسنة والإجماع ، وأقوال علماء السنة متوافرة كثيرة ، وليس القصد هنا النقاش أو الردّ على مصابيح الهدى رحمهم الله ، والله أعلم 



 والكلام عن الأرواح عموماً في غاية الصعوبة ، فهو بحرٌ لُّجِّيّ تهيّبه كثيرٌ من أهل العلم ووقفوا على ساحله ، فنقف حيث وقفوا ، وقد تحيّرت في أمر الروح وشأنها الأمم قبل الإسلام ، فما أوتوا من العلم عن الروح إلا قليلا ، جاء في الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم  ، مر بنفر من اليهود ، فقال بعضهم لبعض : سلوه عن الروح ؟ فأنزل الله قوله تعالى : (ويسألونك عن الروح ، قُل الروحُ من أمرِ رَبِّي وما أُوتيتُم من العِلم إلا قليلا)
.

وقد صنّف ابن القيّم -رحمه الله - في هذه المسألة العظيمة كتابا عظيما مشهورا عند أهل العلم.


                                     وكتب 

                        حمود بن مطلق الدغيلبي

                         مكة لمكرمة حرسها الله 

                      ضحى يوم الجمعة 1441/12/3 هـ 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق