17‏/08‏/2020

فوائد في علم الأنساب ، عن قبيلتي جُذام وبلي .

 


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .




قبيلة جُذام من عريب من كهلان ، وقبيلة سعد الله من بلي من قضاعة من حمير ، قبيلتان من قحطان ، ولكن بينهما بونٌ شاسع وفرقٌ كبير ، في العدد والقوة والبلاد ، حتى أصبح الفرق بينهما مضربا للمثل ، وأصبح الجاهلُ لهذا الفرق جاهلا يضرب به المثل ،ومما جعلني أذكر هذا المثل والكلام عليه ، هو ما يذكره بعض المتأخرين أن جذام مساوية لسعد الله ، بل لقد رأيت بعضهم ، جعل بلاد جذام أكبر من بلاد بلي كلها ، وقُلب الاستدلال ، وهذا غير صحيح .



قال أبو عُبيد القاسم بن سلاّم (المتوفى: 224هـ) في  الأمثال (393) : ومن أمثالهم: لا يدري اسعد الله أكثر أم جذام.

قال أبو عبيد: وهذا المثل مبتذل أيضاً في العامة على غير هذا اللفظ، وهو عندي كقول الأصمعي، وقال: سعد الله وجذام حيان بينهما فضل بيّنٌ لا يخفى على الجاهل الذي لا يعرف شيئاً، ويروى عن حارثة بن عبد العزى العامري، وكان من علماء العرب، أنَّ هذا المثل قائله حمزة بن الضليل البلوى لزنباع بن رَوْح الجذامي:


لقد أُفحِمتَ حتى لستَ تدري

أسعدُ الله أكثر أم جذامُ

.

وهذا دليلٌ أن الكثرة لسعد الله .


وقال ابن فارس (المتوفى: 395هـ) في متخير الألفاظ (163) : وفي أمثالهم: ما يدري أسعدُ الله أكثر أم جذام.

يضرب لمن لا يعرف القليل من الكثير.

.

وقال أبو هلال العسكري (المتوفى: نحو 395هـ) في جمهرة الأمثال (2/280) : قَوْلهم مَا يدرى أسعد الله أَكثر أم جذام ، يُقَال ذلك للرجل لا يعقل الأشياء ولا يفرق بين الخير والشّر وسعد وجذامٌ قبيلتان لإحداهما فضل على الأخرى.

.

وقال الميداني النيسابوري (المتوفى: 518هـ) في مجمع الأمثال (2/214) : لا يدري أَسَعْدُ الله أَكْثَرُ أمْ جُذَامُ

قَال الأَصمَعي: سعد الله وجُذَام حَيَّان بينهما فَضْل بَيِّن لا يخفى على الجاهل الذي لا يعرف شيئاً.

قَال أبو عبيد: يروي عن جابر بن عبد العزيز العامري - وكان من علماء العرب - أن هذا المثلَ قَاله حمزة بن الضَّليل البَلَوي لروح بن زِنْبَاع الجُذَامي : 


لَقَد أُفْحِمْتَ حَتَّى لَسْتَ تَدْرِي 

أسَعْدُ الله أكثَرُ أمْ جُذَامُ

.

وقال ابن حمدون (المتوفى: 562هـ) في  التذكرة الحمدونية (7/97) : «لا يدري أسعد الله أكثر أم جذام» وهما حيان بينهما من التفاوت ما لا يخفى على جاهل، قاله حمزة بن الضليل البلوي لروح بن زنباع الجذامي.

قال :


لقد أُفحمت حتى لست تدري

أسعد الله أكثر أم جذام .

.

وهو في المستقصى في أمثال العرب للزمخشري (المتوفى: 538هـ) (2/336) .

.

وقال ابن سعيد الأندلسي في نشوة الطرب في تاريخ جاهلية العرب (2/780) : وقالوا : لا يدري أسعد الله أكثر أم جذام ، وذلك في الجاهل.

.

وقال ابن حجر العسقلاني (المتوفى: 852هـ) الإصابة في تمييز الصحابة (2/471) :وذكر ابن الكلبيّ في نسب بليّ أنه وقع بين حمزة بن الضليل البلوي وبين زنباع بن روح هذا في الجاهلية مخايلة، فجاء زنباع بالطّعام، وجاء حمزة بالدّراهم، فنثرها، فمال الناس إلى الدّراهم وتركوا الطّعام، فلما رأى ذلك زنباعٌ أُفحِم فقيل فيه:

لقد أُفْحِمتَ حتّى لستَ تدري

أسعدُ اللَّه أكبرُ أم جذامُ

فما فضلي عليك ونحن قوم

لنا الرّأس المقدّم والسّنام

.

قلتُ : نقله هذا عن الكلبي ، ذكره الكلبي في كتابه : نسب معدّ واليمن الكبير (3/6) ولفظ البيت : أَسعد اللّه أَكثر أَم جُذام ، وفي الجمهرة له : أكبر أم جذام .

.

قال أبو منصور الثعالبي (المتوفى: 429هـ) في  ثمار القلوب في المضاف والمنسوب (28) : (سعد الله) قَالَ الأصمعى من أَمْثَال الْعَرَب

(أسعد الله أَكثر أم جذام ... )

وهما حَيّان بينهما فضل بين لا يخفى إلا على جاهل لا يعرف شيئا قال الشّاعر :


لقد أفحمت حَتَّى لست تدرى

أسعد الله أَكثر أم جذام


وَضمّن الصاحب أبو القاسم إسماعيل بن عباد مُعظم هذا البيت شعرًا له كتب بِه في صباه إلى بعض إخوانه فمنه :


كتبت وَقد سبت عقلى المدام

وساعدنى على الشّرْب الندام

وأسرفنا فَمَا ندرى لسكر

أسعد الله أَكثر أم جذام


وَسعد من بَين قبائل العرب مَخصوصة بالفصاحة وَحسن البيان وكان النبى صلى الله عليه وسلم مسترضعا فيهم وظئرة حليمة السعدية هى الّتى تسلمته من عبد المطلب فحملته إلى المدينة فكانت ترضعه وتحسن تربِيته ولما ردته إلى مكّة نظر إليه عبد المطلب وقد نما نمو الهلال وهو يتَكلّم بفصاحة فامتلأ سرورا وقال جمال قريش وفصاحة سعد وحلاوة يثرب

وكان النّبي صلى الله عليه وسلم يَقول : أنا أفصح العرب بيد أنى من قريش ونشأت في بنى سعد بن بكر فأنى يأتينى اللّحن.

وكان شبيب بن شيبَة من أفصح الخطباء وهو من بنى سعد وفيه يَقول أبو نخيلة :


إِذا عدت سعد على شبيبها

على فتاها وعَلى خطيبها

من مطلع الشَّمْس إِلَى مغيبها

عجبت من كثرتها وطيبها . انتهى كلامه

.

قلتُ : أصاب في ما نقله عن الأصمعي ، ولكنه خلط خلطا قبيحا ، فلم يفرّق بين ثلاث قبائل متباعدة في النسب و البلاد ، وهي :

الأولى : بنو سعد الله من قبيلة بليّ من قضاعة ، وهم المقصودون بالمثل .

الثانية : بنو سعد بن بكر بن هوازن ، الذين منهم مرضعة النبي صلى الله عليه وسلم ، وهم أخواله .

الثالثة : بنو سعد من قبيلة تميم ، الذين منهم : شبيب بن شيبة المذكور .


وفي كتاب الأمثال المنسوب لزيد بن رفاعة الهاشمي (المتوفى: بعد 400هـ) (223) : ما يدري أسعد الله أكثر أم جذام. وهما قبيلتان من النّمر. وسعد: قبيلة عظيمة. وجذام: قد بادت.

قلتُ : قوله : من النمر ، خطأ ، بل هما قبيلتان من قحطان ، وقوله عن جذام : قد بادت ، خطأ فهي باقية في عصره وما زالت .

أمّا قول القلقشندي (المتوفى: 821هـ) في نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب (291) : يعني أن كلا منهما كثير.

فهو خطأ واضح .

.

قلتُ : وهذا المثل يشرحه فعل عمرو بن العاص - رضي الله عنه - عندما غزا قبيلة جُذام في غزوة ذات السلاسل ، وخاف من كثرة العدو ، فإنه بقي عند قبيلة بليّ في بني سعد الله ، على ماء ذات السلاسل ، وهو من مياههم ، حتى أتاه المدد.

وذلك لأسباب : 

1- أنهم أخوال أبيه.

2- فيهم مسلمون

3-أنهم أكثر وأمنع وأقوى من جذام .

.

وقد وقع وهم وخطأ لبعض المتقدمين عندما نسبوا ماء ذات السلاسل لجُذام ، أو جعلوا الغزوة على قبيلة بلي .

.


وذكر هذا المثل الفرزدق وضمّنَهُ في أبياتٍ له ماجنة ، فقال :


فما تدري إذا قعدَتْ عليهِ

أسَعدُ الله أكثرُ أم جُذام





وقد تصرف جامع وشارح ديوان الفرزدق ، إيليّا الحاوي في جمعه لديوان الفرزدق (2/529) وحذف أبيات كثيرة من قصيدته الميمية هذه ، والتي مطلعها :


أَلَستُم عائِجينَ بِنا لَعَنّا

نَرى العَرَصاتِ أَو أَثَرَ الخِيامِ


دون أن ينبّه على ذلك ، ولعله فعل ذلك لما فيها من مجون ، وفعله هذا خيانةٌ في نقله ، ووَرَعٌ أعجميّ مظلم .

وتبعه على ذلك : علي فاعور في جمعه لديوان الفرزدق ، وتبعه على ذلك : مجيد طراد ، وأيضا تبعه على ذلك : كرم البستانى .


وقصيدته الميمية تجدها وافية في شرح نقائض جرير والفرزدق لأبي عبيدة معمر بن المثنى (برواية اليزيدي عن السكري عن ابن حبيب عنه) (3/1081) وأيضا في منتهى الطلب من أشعار العرب لمحمد بن المبارك بن محمد بن ميمون البغدادي (المتوفى: 597 هـ) (5/409)


وكذلك ذكر المثل وضمّنه مَعنُ بن أوسٍ المزنيُّ ، فقال :


 ويَعترِضُ الكَلامَ وليسَ يَدري

أَسعدُ اللَّه أَكثَرُ أَم جُذَامُ



.

عشية الاثنين 27 من ذي الحجة 1441 هـ

والله أعلم .


24‏/07‏/2020

لماذا تبغض من لا تعرفه ، وما سبب ذلك ودلالته




                                   


                                        بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على جميع الأنبياء والمرسلين ، وعلى سيّدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

هذه كلمات قليلة متناثرة جمعتها تحت عنوان واحد ، وهي مسألة ( محبتنا أو بغضنا لشخصٍ لا نعرفه) وهل لهذا الفعل سببٌ ؟ ، وأيضاً هل لهذا الفعل دلالة ؟

بداية ؛ الكلام هنا عن الحب أو البغض الذي ليس له سببٌ شرعيّ أو طبعيّ أو سببٌ ناتج عن تعاملٍ أو شكلٍ وصورة .

قد يظن بعض الناس بما أنه ليس له سببٌ ظاهرٌ ، فإنّه ليس له سببٌ آخر ، وهذا خطأ ، فالحقيقة إنّ لهذا الحب أو البغض سبباً أكيداً أخبر به الصادق المصدوق ، رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وله دلالة فهمها أصحابُ محمد صلى الله عليه وسلم والسلفُ الصالح .

والصحيح أن هذا الحب والائتلاف نشأ عن معرفة سابقة بين روحيهما -أي المحب والمحبوب- ، فانجذب كلٌ إلى شكله وشبيهه ، وهذه أيضاً الدلالة الخطيرة التي فهمها الصحابةُ الكرام والسلف الصالح ، بل ورد أن هذا التعارف أمرٌ معروف حتى عند المشركين قبل الإسلام .


قال طَرَفَةُ بن العبد :
 تَعَارَفُ أَروَاحُ الرِّجَالِ إِذَا التَقَوا
فَمِنهُم عَدُوٌّ يُتَّقَى وَخَلِيلُ


وذُكِرَ لبقراط كما سيأتي أن رجلاً من أهل النقص يُحبُّه فاغتمّ لذلك ، وقال : ما أحبني إلا وقد وافقتُه في بعض أخلاقه .

أمّا قول النبي صلى الله عليه وسلم فقد جاء في صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ، يقول : الأرواح جُنودٌ مجنّدة فما تعارف منها ائتلف ، وما تناكر منها اختلف .


وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : الأرواح جنودٌ مجنّدة ، فما تعارف منها ائتلف ، وما تناكر منها اختلف .


وروى مسددٌ في مسنده بسند صحيح كما في المطالب العالية للحافظ (‏3514‏)  عن عبد الله بن مسعود , قال : الأرواح جنود مجندة , تلتقي (وتتشامّ كما تشامّ الخيل) فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف .
قال الحافظ ابن حجر في المطالب : موقوف صحيح ، وقال الألباني : صحيح .



 وعند الطبراني في الأوسط وغيره بسندٍ حسن لغيره  (5363) سؤال عمر بن الخطاب لعلي بن أبي طالب عن الرجل يحب الرجل ولم ير منه خيرا ، والرجل يبغض الرجل ولم ير منه شرا ؟ فقال: إن الأرواح في الهواء جنود مجندة تلتقي (فتشامّ) فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف .



وجاء ما يوضح معنى حديث عائشة رضي الله عنها ، ويشرحه ، ففي رواية المسند لأبي يعلى الموصلي  (‏4265‏) عن عمرة بنت عبد الرحمن قالت : كان بمكة امرأة مزاحة فنزلت على امرأة مثلها ، ولا تعرف تلك المرأة ، فبلغ ذلك عائشة ، فقالت : صدق حبي ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : الأرواح جنود مجندة ، فما تعارف منها ائتلف ، وما تناكر منها اختلف .


جاء هذا الحديث عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم ، منهم علي بن أبي طالب وابن مسعود وسلمان الفارسي وابن عمر وابن عباس وأبي الطفيل الليثي.


وروى الإمام أحمد في مسنده (6464) والبخاري في الأدب المفرد (268) والطبراني في المعجم الكبير (13589) بسندٍ فيه ابن لهيعة، عن عبد الله بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن أرواح المؤمنين تلتقي على مسيرة يوم ، ما رأى أحدُهم صاحبَه قط .
وقد رواه عن ابن لهيعة أحد العبادلة ، وهو عبد الله ابن وهب كما في الجامع في الحديث (‏178‏) بلفظ: إن روحَيّ المؤمنَينِ ليلتقيان على مسيرة يوم وما رأى أحدهما صاحبه قط .
وهذا سندٌ حسن عند من يحسّن رواية العبادلة عنه .



 قال أبو سليمان الخطابي رحمه الله في أعلام الحديث (شرح صحيح البخاري) (3/1530) : هذا يتأول على وجهين : 
أحدهما : أن يكون إشارة إلى معنى التشاكل في الخير والشر ، والصلاح والفساد ، فإن الخيّر من الناس يحن إلى شكله ، والشرير يميل إلى نظيره ومثله ، والأرواح إنما تتعارف بضرائب طباعها التي جُبَلت عليها من الخير والشر ، فإذا اتفقت الأشكال تعارفت وتآلفت ، وإذا اختلفت تنافرت وتناكرت ؛ ولذلك صار الإنسان يُعرفُ بقرينهِ ، ويعتبر حاله بإلفه وصحبه . 
والوجه الآخر : أنه إخبار عن بدء الخلق في حال الغيب على ما روي في الأخبار أن الله عز وجل : خلق الأرواح قبل الأجسام ، وكانت تلتقي فتشام كما تشام الخيل ، فلما التبست بالأجسام تعارفت بالذكر الأول فصار كلٌ منهما إنما يعرف وينكر على ما سبق له العهد المتقدم ، والله أعلم .ا.هـ


وفي فتح الباري لابن حجر (6/370) : قال بن الجوزي : ويستفاد من هذا الحديث أن الإنسان إذا وجد من نفسه نفرةً ممن له فضيلة أو صلاح ، فينبغي أن يبحث عن المقتضي لذلك ليسعى في إزالته ، حتى يتخلص من الوصف المذموم وكذلك القول في عكسه .


وقال البغوي في شرح السنة (13/57) :
وفي الحدِيث بَيَان أن الأرواح خُلقت قبل الأجساد، وأنّها مخلوقة على الائتلاف وَالِاختلاف ، كالجنود المجنّدة إذا تقابلت وتواجهت، وذلك على ما جعلها الله عليه من السَّعَادَة والشقاوة، ثمّ الأجساد الّتي فِيهَا الأرواح تلتقي في الدّنيا، فتأتلف وتختلف على حسب ما جُعلت عليه من التشاكل والتناكر في بدء الخلق، فترى البر الخيّر يحب مثله، والفاجر يألف شكله، وينفرُ كلٌ عَن ضِدّه.
وَفِيه دَلِيل على أن الأرواح ليست بأعراض، أنّها قد كانَت موجودة قبل الأجساد، وأنّها تبقى بعد فناء الأجساد، كما أخبر النَّبِي صلّى الله عليه وسلّم عن الشّهداء: «أَن أرواحهم في جوف طير خضر، تسرح من الجنَّة حيث شَاءَت».ا.هـ
.
وقال أبو العباس القرطبي في المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (6/646) : ويستفاد من هذا الحديث أن الإنسان إذا وجد من نفسه نفرةً ممن له فضيلة أو صلاح فتش على الموجب لتلك النفرة ، وبحث عنه بنور العلم ؛ فإنَّه ينكشف له ، فيتعيّن عليه أن يسعى في إزالة ذلك ، أو في تضعيفه بالرياضة السياسية ، والمشاهدة الشرعية حتى يتخلص من ذلك الوصف المذموم ، فيميل لأهل الفضائل والعلوم ، وكذلك القول فيما إذا وجد ميلا لمن فيه شر ، أو وصف مذموم. 



وروى الطبراني في المعجم الكبير (6046) والبزار في مسنده (2315) عن الحارث بن عميرة قال : انطلقت حتى قدمت على سلمان بالمدائن فلما سلّمتُ عليه قال : مكانك حتى أخرج إليك ، قال الحارثُ : والله ما أراك تعرفني يا أبا عبد الله ، قال : بلى ، عرفتْ روحي روحَك قبل أن أعرفك ، إن الأرواح عند الله جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها في غير الله اختلف.


وفي مصنف ابن أبي شيبة  (‏25154‏) بسندٍ رجاله ثقات ، عن ميمون ، أن رجلا سلّم على سلمان الفارسي ، فقال : السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته ، فقال : سلمان : حسبك ، ثم رد على الذي قال , ثم أراد أخرى فقال له الرجل : أتعرفني يا أبا عبد الله ؟ فقال : أما روحي فقد عرفت روحك .


وفي الإبانة الكبرى لابن بطة  (‏503‏)عن ميمون بن مهران , قال : لقي سلمان رجلا , فقال : أتعرفني ؟ قال : لا , ولكن عرفت روحي روحك .


وفي شرح أصول الاعتقاد (‏234‏)  قال : وسمعتُ الفضيل يقول : الأرواح جنود مجندة , فما تعارف منها ائتلف , وما تناكر منها اختلف , ولا يمكن أن يكون صاحب سنة يمالئ صاحب بدعة إلا من النفاق .


قال ابن بطة في الإبانة الكبرى (‏430‏) بعد هذا الكلام  : صدق الفضيل رحمة الله عليه , فإنا نرى ذلك عيانا.



وفي المستدرك للحاكم (5713) وحلية الأولياء لأبي نعيم  (‏14815‏) ،وشرح أصول الاعتقاد ، كرامات الأولياء لللالكائي (‏2386‏) واللفظ لأبي نعيم ، قال : لقي هرمُ بن حيّان أويساً القرني فقال : السلام عليك يا أويس بن عامر ، قال : وعليك يا هرم بن حيّان ، فقال : أما أنا فعرفتك بالصفة ، فكيف عرفتني ؟ ، قال : عرفتْ روحي روحك ؛ لأن أرواح المؤمنين تشام كما تشام الخيل فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف .




وفي الإبانة الكبرى لابن بطة (‏504‏) بسند ليّن  عن مجاهد , قال : نظر ابن عباس إلى رجل فقال : إن ذاك ليحبني قال : قيل له : يا أبا عباس وما يدريك ؟ قال : لأني أحبه , إن الأرواح جنود مجندة , فما تعارف منها ائتلف , وما تناكر منها اختلف.


وفي اعتلال القلوب للخرائطي (‏450‏) عن عبد الله بن مسعود قال : لا تسألن امرءا عن وده ، وانظر ، ما له في قلبك ، فإن لك في قلبه مثل ذلك.


وفي مصنف عبد الرزاق الصنعاني (‏7640‏ ) بسندٍ صحيحٍ  عن ابن مسعود قال : اعتبروا الناس بالأخدان ، فإن الرجل لا يخادن إلا من رضي نحوه أو حاله. 
وفي لفظ : اعتبروا الناس بأخدانهم , المسلم يتبع المسلم , والفاجر يتبع الفاجر .




قال ابن القيّم في كتاب الروح (54) : وقد تتناسب الروحان وتشتدّ علاقة إحداهما بالأخرى، فيشعر كل منهما ببعض ما يحدث لصاحبه، وإن لم يشعر بما يحدث لغيره ، لشدة العلاقة بينهما، وقد شاهد الناس من ذلك عجائب.


وقال أيضاً ابن القيم رحمه الله في روضة المحبين في سياق كلامه على هذا الحديث (115) : وذُكِرَ لبقراط رجل من أهل النقص يحبه فاغتمّ لذلك ، وقال: ما أحبني إلا وقد وافقتُه في بعض أخلاقه،  وأخذا المتنبي هذا المعنى فقلبه ، وأجاد،  فقال :
وإذا أتتك مذمتي من ناقص
فهي الشهادة لي بأني فاضل


وقال بعض الأطباء العشق امتزاج الروح بالروح لما بينهما من التناسب والتشاكل ، فإذا امتزج الماء بالماء امتنع تخليص بعضه من بعض ، ولذلك تبلغ المحبة بين الشخصين حتى يتألم أحدهما بتألم الآخر ويسقم بسقمه وهو لا يشعر، ويُذكر أن رجلا كان يحب شخصا فمرض فدخل عليه أصحابه يعودونه فوجدوا به خفة فانبسط معهم وقال : من أين جئتم ؟ ، قالوا : من عند فلان عدناه ، فقال : أو كان عليلا ؟ ، قالوا : نعم ؛ وقد عوفي ، فقال : والله لقد أنكرت علتي هذه ولم أعرف لها سببا ، غير أني توهمت أن ذلك لعلة نالت بعض من أحب ، ولقد وجدت في يومي هذا راحة ففرحت طمعا أن يكون الله سبحانه وتعالى شفاه ، ثم دعا بدواة فكتب إلى محبوبه :
إني حُممتُ ولم أشعر بحُمّاك
حتى تحدث عوادي بشكواك
فقلت ما كانت الحُمّى لتطرقني
من غير ما سببٍ إلا لحُمّاك
وخصلة كنت فيها غير متهم
عافاني الله منها حين عافاك


ويُحكى أن رجلا مرضَ من يُحبه فعاده المحبُ فمرضَ من وقته فعوفي محبوبه فجاء يعوده فلما رآه ، عوفي من وقته ، وأنشد :
مرض الحبيب فعدته
فمرضتُ من حذري عليه
وأتى الحبيب يعودني
فبرئت من نظري إليه


وأنت إذا تأملت الوجود لا تكاد تجد اثنين يتحابان إلا وبينهما مشاكلة أو اتفاق في فعل أو حال أو مقصد ، فإذا تباينت المقاصد والأوصاف والأفعال والطرائق لم يكن هناك إلا النفرة والبعد بين القلوب ، ويكفي في هذا الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر.
.
.
قال ابن بطة في الإبانة (269) بعد أن روى بسنده قول ابن مسعود : الأرواح جنود مجندة , تلتقي (وتتشامّ كما تشامّ الخيل) فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف ، قال : وكذا قالت شعراء الجاهلية . 
قَالَ طَرَفَةُ :
 تَعَارَفُ أَرْوَاحُ الرِّجَالِ إِذَا التَقَوا
فَمِنهُم عَدُوٌّ يُتَّقَى وَخَلِيلُ.ا.هـ


قلتُ : هو طَرَفَةُ هو ابن العبد ، وقد تناول الشعراء بعد ذلك هذا المعنى من تلاقي الأرواح وائتلافها لمن تعرفه.

 فقال قيس بن ذريح :
 تعلق روحي روحها قبل خلقنا
 ومن بعد ما كنا نطافا وفي المهد
 فزاد كما زدنا فأصبح ناميا
 فليس وإن متنا بمنفصم العهد
 ولكنه باق على كل حادث
 وزائرنا في ظلمة القبر واللحد
 يكاد  فَضِيضُ الماء يخدش جلدها
 إذا اغتسلت بالماء من رقة الجلد



وقال جميل بن معمر العذري :
أظل نهاري مستهاما وتلتقي
مع الليل روحي في المنام وروحها



وفي المرض والكفارات لابن أبي الدنيا(‏257‏) : قال عبد الرحمن بن مقرن : قال لي الطبيب وسقاني شربة من دواء : إياك ومجالسة الثقيل فإنا نجد في كتب الطب أن مجالسة الثقيل حُمّى الروح ، ثم أنشد عبد الرحمن في ذلك :
 تمرضُ الأرواحُ من رؤيته
 فتغشّاها نعاسٌ وكسل
 وإذا قابل قفا وجهه
 لهلال ليلة لم يستهل



قال أبو الطيب المتنبي :
أُصادِقُ نَفسَ المَرءِ مِن قَبلِ جِسمِهِ
وَأَعرِفُها في فِعلِهِ وَالتَكَلُّمِ 



وقال الآخر:
وقائل لي : لم تفارقتما ؟
فقلت قولاً فيه إنصافُ
لم يك من شكلي ففارقته
و الناس أشكالٌ واُلّافُ



وقال بعض الشعراء:
إن القلوب لأجناد مجندة
لله في الأرض بالأهواء تعترف
فما تعارف منها فهو مؤتلف
وما تناكر منها فهو مختلف



وأورد ابن حبان في روضة العقلاء و نزهة الفضلاء (109) قول الأبرش :
وللشيء على الشيء
مقاييس وأشباه
وللروح على الروح
دليل حين يلقاه



وأنشد المنتصر بن بلال الأنصاري:
يزين الفتى في قومه وَيشينه
وفي غيرهم : أخدانُه ومَداخُلُهْ
لكل امرئ شكلٌ من الناس مثله
وكل امرئٍ يهوى إلى من يشاكله



وقال أبو تمام :
وقلتُ أخي، قالوا أخٌ من قرابة ٍ ؟
فقلتُ لهم : إنّ  الشُّكولَ أقارِبُ




وقال الآخر:
بيني وبينك في المحبة نسبة
مستورة في سرّ هذا العالم
نحن الذين تحاببت أرواحنا
من قبل خلق الله طينة آدم



قلتُ : خلق الأرواح قبل الأجساد ثابت بالكتاب والسنة والإجماع ، وهي مخلوقة حادثة ، أمّا قول صاحب كتاب غاية الأماني في الرد على النبهاني (2/109) :  القول بتقدم خلق الأرواح على الأجساد غير مرضي عند السلفيين ، يشير إلى ما ذكره ابن القيّم رحمه الله وبعض المتأخرين ، وهو قول تردّه آية الميثاق وحديث أنس في الصحيح والإجماع ، أمّا قولهم عن آية الميثاق : إنها لم تُخلق خلقا مستقرا مستمرا ، يقال : أولاً : إن هذا فيه إقرار بخلق الأرواح قبل الأجساد ، ثانياً : إن هذا قول والتقييد لا دليل عليه ، أمّا الطعن في الإجماع الذي نقله ابن حزم عن إسحاق ، بإنه إجماع على أن الروح مخلوقة ، وليس إجماعا على أن الروح خلقت قبل الجسد ، فهذا مردود ، وقد نقل هذا الإجماع شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في  درء تعارض العقل والنقل (8/414) : قال اسحاق أجمع أهل العلم أنها الأرواح قبل الأجساد استنطقهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى فقال انظروا إلا تقولوا إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إنما اشرك به أباؤنا من قبل .
ولم يتعقبه شيخ الإسلام .
ونقله أيضا ابن القيم في شفاء العليل (249) ، وقال في أحكام أهل الذمة (2/1057) بعد أن نقل قول إسحاق السابق في الإجماع ، قال ابن القيّم : فإسحاق - رحمه الله تعالى - قال بما بلغه ، وانتهى إلى علمه ، وليس ذلك بإجماع ، فقد اختلف الناس : هل خلقت الأجساد قبل الأرواح، أومعها ؟ على قولين حكاهما شيخنا وغيره.ا.هـ


قلتُ : ولم يذكر -رحمه الله - من هؤلاء الناس الذين اختلفوا ، لن أطيل الكلام في مسألة تقدم خلق الأرواح ، فأدلتها من الكتاب والسنة والإجماع ، وأقوال علماء السنة متوافرة كثيرة ، وليس القصد هنا النقاش أو الردّ على مصابيح الهدى رحمهم الله ، والله أعلم 



 والكلام عن الأرواح عموماً في غاية الصعوبة ، فهو بحرٌ لُّجِّيّ تهيّبه كثيرٌ من أهل العلم ووقفوا على ساحله ، فنقف حيث وقفوا ، وقد تحيّرت في أمر الروح وشأنها الأمم قبل الإسلام ، فما أوتوا من العلم عن الروح إلا قليلا ، جاء في الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم  ، مر بنفر من اليهود ، فقال بعضهم لبعض : سلوه عن الروح ؟ فأنزل الله قوله تعالى : (ويسألونك عن الروح ، قُل الروحُ من أمرِ رَبِّي وما أُوتيتُم من العِلم إلا قليلا)
.

وقد صنّف ابن القيّم -رحمه الله - في هذه المسألة العظيمة كتابا عظيما مشهورا عند أهل العلم.


                                     وكتب 

                        حمود بن مطلق الدغيلبي

                         مكة لمكرمة حرسها الله 

                      ضحى يوم الجمعة 1441/12/3 هـ 

01‏/07‏/2020

تحديد مكان بوانة


                                          





                                    بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيّد المرسلين محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا .

#فوائت_بلدانية
#بوانة
#حضن
#المتفق_والمفترق_بلدانيا
.
هذه الورقات خلاصة بحث مستلة من بحث سابق عن مكان ( بُوانة ) الواردة في الحديث ، أخرجته في هذه التغريدات تلبية لبعض الأحبة ، وسوف أجعل هذه الخلاصة في رابط مستقل حتى يتيسر لا حقا خروج البحث كاملا .
.
مرّ بي ذكر - بوانة - في سنن أبي داود (‏2898‏) وعند غيره  بسند صحيح عن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه ، قال : نذر رجلٌ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينحر إبلا ببوانة فأتى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : إني نذرت أن أنحر إبلا ببوانة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد ؟ قالوا : لا ، قال : هل كان فيها عيد من أعيادهم ؟  ، قالوا : لا ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أوف بنذرك ، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله ، ولا فيما لا يملك ابن آدم .
قال شيخنا مقبل الوادعي رحمه الله في الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين (186): هذا حديثٌ صحيحٌ على شرط الشيخين. أ. هـ.
.
وفي سنن أبي داود (‏2899‏) وسنن ابن ماجه (‏2128‏)  ومسند أحمد بن حنبل (‏15184‏) وعند غيرهم من حديث عبد الله بن يزيد بن مقسم الثقفي من أهل الطائف ، قال : حدثتني سارة بنت مقسم الثقفي ، أنها سمعت ميمونة بنت كَرْدَم ، قالت : خرجتُ مع أبي في حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم ...إلى أن قالت : فدنا إليه أبي فأخذ بقدمه ، قالت : فأقر له ووقف فاستمع منه ، فقال : يا رسول الله ، إني نذرت إن ولِدَ لي ولَدٌ ذكر أن أنحر على رأس بوانة في عقبة من الثنايا عدة من الغنم ، قال : لا أعلم إلا أنها قالت : خمسين ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل بها من الأوثان شيء ؟ قال : لا ، قال : فأوف بما نذرت به لله ، قالت : فجمعها فجعل يذبحها ، فانفلتت منها شاة ، فطلبها وهو يقول : اللهم أوف عني نذري فظفر بها فذبحها .
قال الألباني : صحيح.
.
وفي سنن ابن ماجه (‏2127‏) وغيره  عن ابن عباس ، أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ، إني نذرت أن أنحر ببوانة ، فقال : " في نفسك شيء من أمر الجاهلية ؟ " قال : لا ، قال : أوف بنذرك.
قال الألباني: صحيح
.
فوجدت أغلب الشرّاح رحمهم الله قد تابعوا قول ابن الأثير في النهاية في غريب الحديث (1/164) قال ابن الأثير : وفي حديث النذر هي بضمّ الباء، وقيل بفتحها: هضبة من وراء يَنبُع.
.
ومن توسع من الشرّاح ذكر قول البغوي في شرح السنة (10/31) : وبوانة أسفل مكة دون يلملم، يقال: كان السائل كَرْدَم بن سفيان الثقفي.
.
وهذا التحديد لمكان بوانة أثار عندي أسئلة وإشكالات ، فالسائل هو كَرْدَم بن سفيان - رضي الله عنه -  من ثقيف من هوازن من أهل الطائف ، ما السبب الذي يجعله ينذرأن ينحر في ذلك المكان البعيد عن بلاده وأهله وقومه ، فلما وجدتُ العلامة حمد الجاسر رحمه في معجم شمال المملكة (1/229) شكك أن تكون بوانة التي جهة ينبع هي المقصودة في الحديث بناء على أن هناك بوانة في بلاد بني جشم وهي أقرب للطائف ، تأكّد عندي خطأ الشُرّاح ، فقمتُ بجمع طرق الحديث ورواياته ، ثم تبيّن بالحجة والنص أن بوانة الواردة في الحديث ليست هي هذه التي عند ينبع ولا تلك التي دون يلملم ، بل هي ماء في ( حَضَن ) شرق الطائف وقريبة منه ، في بلاد قوم الصحابي ، وهي لبني جُشم بن معاوية ، فقد روى عبد الرزاق في مصنفه (7/238) بسند صحيح إلى عمرو بن شعيب ، قال عبد الرزاق ، عن ابن جريج قال : سمعت عمرو بن شعيب يقول : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم كان عليه نذر أن ينحر على بوانة - قال : وبوانة : ماء بحضن من نجد - فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إن لم يكن وثنا أو عيدا من أعياد أهل الجاهلية فانحر عليه ، زعموا أن هذا الرجل كرز بن سفيان .
قلتُ : هو كَرْدَم بن سفيان الثقفي رضي الله عنه .

وقد وقع في جميع طبعات المصنّف تصحيفٌ ، وكذا في طبعة مركز البحوث بدار التأصيل، وهي أفضل الطبعات على قولهم ، وهو قوله : (مَاءٌ بِحْصِنٍ مِنْ نَجْدٍ).
والصحيح : ماءٌ بحَضَنٍ من نجد .

وهذا التفسير والتبيين لموقع بوانة إمّا أن يكون من ابن جريج أو من عمرو بن شعيب - وهو الظاهر - وكلاهما - رحمهما الله - حجةٌ من أهل الحجاز ، فعمرو بن شعيب فقيه أهل الطائف ، ومحدثهم ، وكان يتردد كثيرا إلى مكة ، وينشر العلم ، وله مال بالطائف ، وعبد الملك بن جريج شيخ الحرم وإمامه ومحدّث أهل مكة .
.
فقمت بجمع النصوص في أقوال أهل العلم في تحديد مكان بوانة فوجدتُ البكري - رحمه الله - في معجم ما استعجم (1/283) قد رمى بها ، فقال : بوانة بضم أوّله، وبالنون، على بناء فعالة: موضع بين الشام وبين ديار بنى عامر .
ثم عاد في موضع آخر فنقل عن السكوني نصّا جميلا ومهمّاً فقال (4/1236) : وقال السّكونىّ: إذا أردت أن تصدّق الأعراب إلى العجز، يريد عجز هوازن ... ثم ذكر ديار جُشم ، وذكر منها بوانة .
.
أمّا الزمخشري (ت 538هـ) فإنه في كتابه الجبال والأمكنة والمياه قد ذكر بوانة في ثلاث مواضع بشواهد مختلفة إشارة منه إلى تعدد هذه المواضع ، فقال :
.
(ص42) : بُوانة: ماء لجُشَم.
.
ثم قال أيضا (ص58) : بُوانة: موضع، قال :
لقد لقيَتْ شول بجنبي بُوانة
نصيّاً كأعراف الكَوادن أسحما
.
ثم قال أيضا (ص62) : بُوانة: قال السيد عُلَي : هضبة وراء ينبع قريبة من ساحل البحر، وقريب منها ماء يسمى القصَيبية وماء آخر يقال له المجاز وانشد:
تراني يا عُلَي أموتُ وجداً
ولم ارعَ القرائنَ من رِئام
ولم ارع الكَرَى فمُشاوطات
واوردها المجازَ وهي ظوامي
وقال: وقد رأيتُ بوانة وترعَّيتُ فيها، قال: وكَرَى ومشاوطات خِبتان ثمّةَ ، والقرائن بُرَاق ، ورئام وادٍ تسيل فيه القرائن.ا.هـ
.
أمّا ياقوت فقد ذكر كلام الزمخشري وحديث كردم وأبيات الشماخ ووضاح ، ولكنه زاد قول أبي زياد: بوانة من مياه بني عقيل .

قال ياقوت في معجم البلدان (1/505) : بُوَانَةُ: بالضم، وتخفيف الواو، قال أبو القاسم محمود ابن عمر: قال السيد عليّ: بوانة هضبة وراء ينبع قريبة من ساحل البحر وقريب منها ماءة تسمّى القصيبة وماء آخر يقال له المجاز، قال الشّمّاخ ابن ضرار:

نظرت وسهب من بوانة دوننا
وأفيح من روض الرّباب عميق

وهذا يريك أنه جبل، وقال آخر:
لقد لقيت شول بجنبي بوانة
نصيّا كأعراف الكوادن أسحما

وفي حديث ميمونة بنت كردم أن أباها قال للنبي، صلى الله عليه وسلم: إني نذرت أن أذبح خمسين شاة على بوانة، فقال، صلى الله عليه وسلم:
هناك شيء من هذه النّصب؟ فقال: لا، قال: فأوف بنذرك، فذبح تسعا وأربعين وبقيت واحدة فجعل يعدو خلفها ويقول: اللهم أوفي بنذري، حتى أمسكها فذبحها، وهذا معنى الحديث لا لفظه. 
وبوانة أيضا: ماء بنجد لبني جشم، وقال أبو زياد: بوانة من مياه بني عقيل.
 وقال وضّاح اليمن:
أيا نخلتي وادي بوانة حبّذا
إذا نام حرّاس النخيل، جناكما
وحسناكما زادا على كلّ بهجة
وزاد على طيب الغناء غناكما .انتهى كلامه
.

قلتُ : ثم وقفتُ أثناء البحث على عدة مواضع تسمّى ببوانة  -وهي من المتفق والمفترق-  :

1- بوانة ماء بحضن وهي المقصودة في حديث النذر

وهي موضوع البحث ، وسأتكلم عنها  وأحدد مكانها بإذن الله .


2- بوانة في جهة ينبع
وهي المشهورة في هذا الزمان بهذا الاسم ، وهذا موضعها : 👇

.

https://www.google.com/maps/place/%D9%88%D8%A7%D8%AF%D9%8A+%D8%A7%D9%84%D8%A8%D9%88%D8%A7%D9%86%D8%A9+Bawana+Valley%E2%80%AD/@24.7410523,37.3378419,1069m/data=!3m1!1e3!4m5!3m4!1s0x15b9ff865a6a1c7d:0xa07542e4d2362ba!8m2!3d24.7414795!4d37.3400402

.

3- بوانة في بلاد فزارة

قال الحازمي في ما اتفق لفظه وافترق مسماه (1/158) : يَرَعَةَ:  أوله ياء تحتها نقطتان مفتوحة ثُمَّ راء مفتوحة أيضاً : موضع بين بُوانة والحُراضة، في ديار فزارة، وهو من أعمال والي المدينة.

قلتُ : لعلها هي المقصودة في قول الشماخ بن ضرار وهو من بني ثعلبة من غطفان : 
.
  نظرتُ وسهبٌ من ( بُوانةَ ) بيننا
وأَفْيَحُ من رَوضِ الرُّبابِ عميقُ 
.
وفي قول الخصفي من محارب واسمه عامر المحاربي يخاطب بني ثعلبة من غطفان : 

أثعلبَ لولا ما تدعَّونَ بينَنا
من الحلفِ قد سُدَّى بعقدٍ وأُلحما
لقد لقيتْ شولٌ بجنبَي ( بُوانةٍ )
نصيّاً كأعرافِ الكوادنِ أسحما

وديار ثعلبة حول المدينة وهي ملاصقة لديار فزارة .

قال الشيخ حمد الجاسر بعد كلام الحازمي السابق (158/1) : والحراضة وبوانة موضعان يقعان شمال بلاد ينبع ، ولا يزالان معروفين ، ولكنهما ليسا من بلاد فزارة في ذلك العهد ، بل من بلاد جهينة غرب بلاد فزارة .
.
قلتُ : الأشعار تدلّ على وجود اسم بوانة في بلاد غطفان ، وهي غير التي جهة ينبع ، والله أعلم .


4- بوانة التي حول مكة ، قيل: صنمٌ ، وقيل: المكان الذي فيه الصنم .

فمن النصوص التي تدل على أنه مكان الصنم :

ما جاء في الطبقات الكبرى لابن سعد (‏358‏) في حديث ابن عباس قال : حدثتني أم أيمن قالت : كان ببوانة صنم تحضره قريش تعظمه تنسك له النسائك ويحلقون رءوسهم عنده ويعكفون عنده يوما إلى الليل ، وذلك يوما في السنة .

ولكن وقع في بعض روايات هذا الحديث عنها : كان بوانة صنما تحضره قريش يوما في السنة .

وفي الطبقات الكبرى لابن سعد (‏364‏) عن محمد بن جبير بن معطم ، عن أبيه قال : كنا جلوسا عند صنم ببوانة قبل أن يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بشهر.


ومن النصوص تدلّ على أنه صنمٌ :

ما جاء في الطبقات الكبرى لابن سعد أيضا : بثّ رسول الله صلى الله عليه وسلم السرايا إلى الأصنام التي حول الكعبة فكسرها ، منها : العزى ومناة وسواع وبوانة وذو الكفين .

وفي الطبقات الكبرى لابن سعد (‏3940‏) عن حجير بن أبي إهاب قال :  رأيت زيد بن عمرو وأنا عند صنم بوانة بعدما رجع من الشام وهو يراقب الشمس ، فإذا زالت استقبل الكعبة فصلى ركعة وسجدتين ...الخ .

وفي أنساب الأشراف (1/185) :  أن حسان بن ثابت قال: حججت- أو قال: اعتمرت- فرأيت بلالا في حبل طويل، تمده الصبيان، ومعه فيه عامر بن فهيرة ، وهو يقول: أحدٌ أحدٌ ، أنا أكفر باللات والعزى وهبل وإساف ونائلة وبوانة. فأضجعه أمية في الرمضاء.

وفي سبل الهدى (2/181) : قال ابن إسحاق: واجتمعت قريش في عيد لهم عند صنم من أصنامهم. قال محمد بن عمر الأسلمي: وهو بوانة، كانوا يعظمونه وينحرون له ويعكفون عنده ويديرون به، وكان ذلك عيدا لهم في كل سنة يوما.

وفي عيون الأثر (1/56) : ذكر الواقدي عن أم أيمن قالت: كانت بوانة صنما تحضره قريش وتعظمه وتنسك له وتحلق عنده وتعكف عليه يوما إلى الليل في كل سنة.

فإذا كان موضعاً فلا أدري هل هو الذي جهة ينبع أو الذي جهة يلملم أو غير ذلك .


5- بوانة في جهة يلملم :

قال البغوي في شرح السنة (10/31) : وبوانة أسفل مكة دون يلملم .

وفي المؤتلف والمختلف لابن القيسراني (159) : وقال بعضهم بوانة بضم الباء والتخفيف وهي أسفل مَكّة .

اليوم يوجد مواضع باسم بوانة في تلك الجهة ولكنها وراء يلملم وليس دونها ، ومنها هذه الأماكن : 
.
1-هذا مسيل بوانة :👇
.
https://www.google.com/maps/place/20%C2%B036'50.0%22N+40%C2%B029'25.8%22E/@20.613897,40.4910442,179m/data=!3m2!1e3!4b1!4m6!3m5!1s0x0:0x0!7e2!8m2!3d20.6138971!4d40.4904967
.
2-وهذا مسيل بوانا :👇
.
https://www.google.com/maps/place/20%C2%B038'37.8%22N+40%C2%B029'05.9%22E/@20.643842,40.48579,267m/data=!3m2!1e3!4b1!4m6!3m5!1s0x0:0x0!7e2!8m2!3d20.6438422!4d40.4849746
.
3- وادي بوان :👇
.
https://www.google.com/maps/place/20%C2%B028'35.8%22N+40%C2%B013'52.4%22E/@20.476605,40.2323873,386m/data=!3m2!1e3!4b1!4m6!3m5!1s0x0:0x0!7e2!8m2!3d20.4766053!4d40.2312096

.

6- بوانة في جهة القنفذة .
.
1- شعيب بوانة يدفع في وادي قنونا ، وهذا موضعه : 👇

.
https://www.google.com/maps/place/19%C2%B019'37.6%22N+41%C2%B034'17.7%22E/@19.3274775,41.5719847,379m/data=!3m1!1e3!4m6!3m5!1s0x0:0x0!7e2!8m2!3d19.3271056!4d41.5715947

.

7- بوانة في اليمن ولعلها أكثر من واحدة

قال فيها وضاح اليمن :

أيا نخلتيْ وادي بوانة َ حبذا
إذا نَامُ حُرَّاسُ النَّخِيلِ جَنَاكُما

وهناك من ينسبها لعمر بن أبي ربيعة .
.
وقال الهجري في التعليقات والنوادر (729) : سألته عن بُوانة في بيت ابن العرقوب الحِماسي ، وليس ببوانة حَضَنٍ :

ألا هَلْ أتى مَنْ حَلّ بطن حَبَونَن
ونَجُرآنَ أخبارُ الأمُورِ الجَسايم
 بأنَّا رَحَلنا العيسَ من ذي بُوانَةٍ 
وثَجْرٍ على رأي منَ القوم حَازمِ

فقال : بوانة فُرطٌ والفرط أطراف الجبل إذا انقطع في الرمل ، والجميع الأفراط ، وسمي الفرط أيضا العانّ والجميع العوان ، من جبال دُهْرٍ وهو وادٍ للقوادم من كندة ، بين رَخيّة وبين مُطار ، عن حضرموت بيوم ، ورَخيّة به القُرى ، ومُطار وادٍ خالٍ ، قال الهجري : وهذا كلّه أقصى الضاحية وأول بلاد حضرموت .ا.هـ

قلتُ : قول الهجري : وليس ببوانة حَضَنٍ ، يدلّ أن بوانة حضن هي المشهورة .
.
والحماسي بكسر الحاء نِسبَة إلى الحماس بن ربيعة بن كعب بن الحارث بن كعب بطن من مذحج منهم النَّجَاشِيّ وجعفر بن عُلّبة وابن ذي العرقوب
.
.
أمّا بوانة التي في بلاد جشم فقمتُ بالبحث ووجدت بعض النصوص التي تنصّ عليها :
.
1- قول عمرو بن شعيب وهو أحد رواة الحديث قال بعد أن ذكر حديث النذر : بُوَانَةُ: ماءٌ بحَضَنٍ من نجد .

2- قول الهجري السابق : بوانة حَضَنٍ .

3-قال في مقاييس اللغة (1/323) : وبُوَانَةُ: وَادٍ لبني جُشَمَ.

4-قول الزمخشري : بُوانة: ماء لجُشَم.

5- قال نصر في الأمكنة (1/214) : موضعٌ قريب من مكة لبني جشم بن معاوية بن بكر بن هوازن .

6-قال حميد بن ثور الهلالي وهو راجع من الحجّ ، يصف مطاياهم بعد ما كابدن من السير والسرى :

وأصبحْنَ يستأنِسنَ من ذي بُوانةٍ
قَرىً دونَهُ هابِي الترابِ عميقُ

فإن طريقه إلى بلاده التي جهة شمظتين في حرة بني هلال لابد له أن يسلك مع الريع الذي يقطع حضن ، إذن بوانة في هذا الريع .

قوله : يستأنِسنَ أي ينظرن
قوله :قَرىً  أي قرا حرّة بني هلال ، وهو أعلى الحرّة ، فإذا خرج من الريع مشرّقا يلوح له القرا كأنه سنامٌ ، ويكون بين عينيه .
.

وهذا مكان الريع : 👇
.

https://www.google.com/maps/place/21%C2%B030'00.8%22N+41%C2%B020'45.7%22E/@21.5008796,41.3467062,714m/data=!3m1!1e3!4m6!3m5!1s0x0:0x0!7e2!8m2!3d21.5002079!4d41.3460261



.

كلمت الأخ أبا عبد العزيز فالح بن عايض الطريفي البقمي ، من أهل تربة ، عن ( بوانة ) فسأل كبار السن فقالوا : نسمع بها إلى قريب ، فعلمتُ أنّ الاسم لا زال حيّا ومعروفاً ، ولم أتمكن من التقصي في معرفة مكان ( بوانة ) ذلك الوقت ، فسألتُ أخي الأستاذ والباحث عبد الله الحمياني عنها فسأل عنها غَزَّاي بن مَدْوَخ بن عآضَة المرزوقِي البقمي ، فقال له :هي بئر معروفة إلى اليوم وهي هلالية (أي قديمة) وهي بئرهم في هذا الريع ، وزودني بمكانها فله جزيل الشكر على أياديه البيضاء وعلى ما يبذله في هذا العلم .
.
وهنا أمرٌ مهم أن هذه البئر قد سُميّت في السنوات الأخيرة ( مُقبلة ) فلولا هذا التوثيق من سؤال الأستاذ عبد الله للشيخ غزاي بن مدوخ ، لذهب الاسم واندرس فجزاهما الله خيرا.
.
وهذا مكان بوانة حضن : 👇
.
https://www.google.com/maps/place/21%C2%B029'56.8%22N+41%C2%B021'31.8%22E/@21.499102,41.3593662,163m/data=!3m2!1e3!4b1!4m6!3m5!1s0x0:0x0!7e2!8m2!3d21.4991021!4d41.3588193
.

وردت في بعض الروايات أن الذبح على رأس بوانة ، وورد لفظ جبل أو ثنيّة أو ماء ، كما ورد أن بوانه واد ، وهذه تجتمع في مكان واحد فلا تعارض بينها ، فلعل قوله : وَادٍ لبني جُشَمَ ، أراد به هذا الريع ، والله أعلم . 

وورد أيضا على (رأس بوان) ، كما عند أبي نعيم في المعرفة .

وقد تحذف الها كما قال الزّفيان :

أَمَّا تَذَكَّرتَ مِنَ الاَظعانِ
طَوالِعاً مِن نَحوِ ذِى بَوَانِ

قال ياقوت بعد هذا البيت (1/503) : وقد ذكر بعضهم أنه أراد بوانة المذكورة.

واستبعاد بعض الفضلاء لهذا القول لا وجه له ، فبوانة حضن مشهورة ، وعلى طريق مهم يقطع حرة حضن وهو الرّيع ، حتى وإن كان الزفيان سعديّاً من بني تميم ، فهو أيضاً شاعرٌ إسلامي لا كما يقول بعضهم : إنه شاعر جاهلي ، فلا يستبعد أن تكون هي المقصودة في رَجَزه هذا ، والله أعلم .
.
وورد تأنيث الماء ، فقال في تاج العروس (288/34) : (ماءَةٌ لبَني جُشَمَ) بن مُعاوِيَةَ بنِ بكْرِ بنِ هوَازن بالقُرْبِ من مكَّةَ؛ قالَهُ نَصْر.
قلتُ : تأنيثه لها يدلّ على أنها ليست عِدّاً أو ماءً كبيراً ، كما يقول الناس اليوم : مُويْهة ، تصغيرا لها وتقليلا ، وهذا يوافق بئر بوانة التي في الريع .
.
والله أعلم .


                       وكتب

            حمود بن مطلق الدغيلبي

     مكة المكرمة حرسها الله ورفع الوباء عنها

             يوم الأربعاء 10-11-1441هـ