17‏/08‏/2020

فوائد في علم الأنساب ، عن قبيلتي جُذام وبلي .

 


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .




قبيلة جُذام من عريب من كهلان ، وقبيلة سعد الله من بلي من قضاعة من حمير ، قبيلتان من قحطان ، ولكن بينهما بونٌ شاسع وفرقٌ كبير ، في العدد والقوة والبلاد ، حتى أصبح الفرق بينهما مضربا للمثل ، وأصبح الجاهلُ لهذا الفرق جاهلا يضرب به المثل ،ومما جعلني أذكر هذا المثل والكلام عليه ، هو ما يذكره بعض المتأخرين أن جذام مساوية لسعد الله ، بل لقد رأيت بعضهم ، جعل بلاد جذام أكبر من بلاد بلي كلها ، وقُلب الاستدلال ، وهذا غير صحيح .



قال أبو عُبيد القاسم بن سلاّم (المتوفى: 224هـ) في  الأمثال (393) : ومن أمثالهم: لا يدري اسعد الله أكثر أم جذام.

قال أبو عبيد: وهذا المثل مبتذل أيضاً في العامة على غير هذا اللفظ، وهو عندي كقول الأصمعي، وقال: سعد الله وجذام حيان بينهما فضل بيّنٌ لا يخفى على الجاهل الذي لا يعرف شيئاً، ويروى عن حارثة بن عبد العزى العامري، وكان من علماء العرب، أنَّ هذا المثل قائله حمزة بن الضليل البلوى لزنباع بن رَوْح الجذامي:


لقد أُفحِمتَ حتى لستَ تدري

أسعدُ الله أكثر أم جذامُ

.

وهذا دليلٌ أن الكثرة لسعد الله .


وقال ابن فارس (المتوفى: 395هـ) في متخير الألفاظ (163) : وفي أمثالهم: ما يدري أسعدُ الله أكثر أم جذام.

يضرب لمن لا يعرف القليل من الكثير.

.

وقال أبو هلال العسكري (المتوفى: نحو 395هـ) في جمهرة الأمثال (2/280) : قَوْلهم مَا يدرى أسعد الله أَكثر أم جذام ، يُقَال ذلك للرجل لا يعقل الأشياء ولا يفرق بين الخير والشّر وسعد وجذامٌ قبيلتان لإحداهما فضل على الأخرى.

.

وقال الميداني النيسابوري (المتوفى: 518هـ) في مجمع الأمثال (2/214) : لا يدري أَسَعْدُ الله أَكْثَرُ أمْ جُذَامُ

قَال الأَصمَعي: سعد الله وجُذَام حَيَّان بينهما فَضْل بَيِّن لا يخفى على الجاهل الذي لا يعرف شيئاً.

قَال أبو عبيد: يروي عن جابر بن عبد العزيز العامري - وكان من علماء العرب - أن هذا المثلَ قَاله حمزة بن الضَّليل البَلَوي لروح بن زِنْبَاع الجُذَامي : 


لَقَد أُفْحِمْتَ حَتَّى لَسْتَ تَدْرِي 

أسَعْدُ الله أكثَرُ أمْ جُذَامُ

.

وقال ابن حمدون (المتوفى: 562هـ) في  التذكرة الحمدونية (7/97) : «لا يدري أسعد الله أكثر أم جذام» وهما حيان بينهما من التفاوت ما لا يخفى على جاهل، قاله حمزة بن الضليل البلوي لروح بن زنباع الجذامي.

قال :


لقد أُفحمت حتى لست تدري

أسعد الله أكثر أم جذام .

.

وهو في المستقصى في أمثال العرب للزمخشري (المتوفى: 538هـ) (2/336) .

.

وقال ابن سعيد الأندلسي في نشوة الطرب في تاريخ جاهلية العرب (2/780) : وقالوا : لا يدري أسعد الله أكثر أم جذام ، وذلك في الجاهل.

.

وقال ابن حجر العسقلاني (المتوفى: 852هـ) الإصابة في تمييز الصحابة (2/471) :وذكر ابن الكلبيّ في نسب بليّ أنه وقع بين حمزة بن الضليل البلوي وبين زنباع بن روح هذا في الجاهلية مخايلة، فجاء زنباع بالطّعام، وجاء حمزة بالدّراهم، فنثرها، فمال الناس إلى الدّراهم وتركوا الطّعام، فلما رأى ذلك زنباعٌ أُفحِم فقيل فيه:

لقد أُفْحِمتَ حتّى لستَ تدري

أسعدُ اللَّه أكبرُ أم جذامُ

فما فضلي عليك ونحن قوم

لنا الرّأس المقدّم والسّنام

.

قلتُ : نقله هذا عن الكلبي ، ذكره الكلبي في كتابه : نسب معدّ واليمن الكبير (3/6) ولفظ البيت : أَسعد اللّه أَكثر أَم جُذام ، وفي الجمهرة له : أكبر أم جذام .

.

قال أبو منصور الثعالبي (المتوفى: 429هـ) في  ثمار القلوب في المضاف والمنسوب (28) : (سعد الله) قَالَ الأصمعى من أَمْثَال الْعَرَب

(أسعد الله أَكثر أم جذام ... )

وهما حَيّان بينهما فضل بين لا يخفى إلا على جاهل لا يعرف شيئا قال الشّاعر :


لقد أفحمت حَتَّى لست تدرى

أسعد الله أَكثر أم جذام


وَضمّن الصاحب أبو القاسم إسماعيل بن عباد مُعظم هذا البيت شعرًا له كتب بِه في صباه إلى بعض إخوانه فمنه :


كتبت وَقد سبت عقلى المدام

وساعدنى على الشّرْب الندام

وأسرفنا فَمَا ندرى لسكر

أسعد الله أَكثر أم جذام


وَسعد من بَين قبائل العرب مَخصوصة بالفصاحة وَحسن البيان وكان النبى صلى الله عليه وسلم مسترضعا فيهم وظئرة حليمة السعدية هى الّتى تسلمته من عبد المطلب فحملته إلى المدينة فكانت ترضعه وتحسن تربِيته ولما ردته إلى مكّة نظر إليه عبد المطلب وقد نما نمو الهلال وهو يتَكلّم بفصاحة فامتلأ سرورا وقال جمال قريش وفصاحة سعد وحلاوة يثرب

وكان النّبي صلى الله عليه وسلم يَقول : أنا أفصح العرب بيد أنى من قريش ونشأت في بنى سعد بن بكر فأنى يأتينى اللّحن.

وكان شبيب بن شيبَة من أفصح الخطباء وهو من بنى سعد وفيه يَقول أبو نخيلة :


إِذا عدت سعد على شبيبها

على فتاها وعَلى خطيبها

من مطلع الشَّمْس إِلَى مغيبها

عجبت من كثرتها وطيبها . انتهى كلامه

.

قلتُ : أصاب في ما نقله عن الأصمعي ، ولكنه خلط خلطا قبيحا ، فلم يفرّق بين ثلاث قبائل متباعدة في النسب و البلاد ، وهي :

الأولى : بنو سعد الله من قبيلة بليّ من قضاعة ، وهم المقصودون بالمثل .

الثانية : بنو سعد بن بكر بن هوازن ، الذين منهم مرضعة النبي صلى الله عليه وسلم ، وهم أخواله .

الثالثة : بنو سعد من قبيلة تميم ، الذين منهم : شبيب بن شيبة المذكور .


وفي كتاب الأمثال المنسوب لزيد بن رفاعة الهاشمي (المتوفى: بعد 400هـ) (223) : ما يدري أسعد الله أكثر أم جذام. وهما قبيلتان من النّمر. وسعد: قبيلة عظيمة. وجذام: قد بادت.

قلتُ : قوله : من النمر ، خطأ ، بل هما قبيلتان من قحطان ، وقوله عن جذام : قد بادت ، خطأ فهي باقية في عصره وما زالت .

أمّا قول القلقشندي (المتوفى: 821هـ) في نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب (291) : يعني أن كلا منهما كثير.

فهو خطأ واضح .

.

قلتُ : وهذا المثل يشرحه فعل عمرو بن العاص - رضي الله عنه - عندما غزا قبيلة جُذام في غزوة ذات السلاسل ، وخاف من كثرة العدو ، فإنه بقي عند قبيلة بليّ في بني سعد الله ، على ماء ذات السلاسل ، وهو من مياههم ، حتى أتاه المدد.

وذلك لأسباب : 

1- أنهم أخوال أبيه.

2- فيهم مسلمون

3-أنهم أكثر وأمنع وأقوى من جذام .

.

وقد وقع وهم وخطأ لبعض المتقدمين عندما نسبوا ماء ذات السلاسل لجُذام ، أو جعلوا الغزوة على قبيلة بلي .

.


وذكر هذا المثل الفرزدق وضمّنَهُ في أبياتٍ له ماجنة ، فقال :


فما تدري إذا قعدَتْ عليهِ

أسَعدُ الله أكثرُ أم جُذام





وقد تصرف جامع وشارح ديوان الفرزدق ، إيليّا الحاوي في جمعه لديوان الفرزدق (2/529) وحذف أبيات كثيرة من قصيدته الميمية هذه ، والتي مطلعها :


أَلَستُم عائِجينَ بِنا لَعَنّا

نَرى العَرَصاتِ أَو أَثَرَ الخِيامِ


دون أن ينبّه على ذلك ، ولعله فعل ذلك لما فيها من مجون ، وفعله هذا خيانةٌ في نقله ، ووَرَعٌ أعجميّ مظلم .

وتبعه على ذلك : علي فاعور في جمعه لديوان الفرزدق ، وتبعه على ذلك : مجيد طراد ، وأيضا تبعه على ذلك : كرم البستانى .


وقصيدته الميمية تجدها وافية في شرح نقائض جرير والفرزدق لأبي عبيدة معمر بن المثنى (برواية اليزيدي عن السكري عن ابن حبيب عنه) (3/1081) وأيضا في منتهى الطلب من أشعار العرب لمحمد بن المبارك بن محمد بن ميمون البغدادي (المتوفى: 597 هـ) (5/409)


وكذلك ذكر المثل وضمّنه مَعنُ بن أوسٍ المزنيُّ ، فقال :


 ويَعترِضُ الكَلامَ وليسَ يَدري

أَسعدُ اللَّه أَكثَرُ أَم جُذَامُ



.

عشية الاثنين 27 من ذي الحجة 1441 هـ

والله أعلم .