(تضارع)
قال صالح : «تضارع جبل بنجد قريب من حمى الربذة وشابة قال البكري جبل لهذيل لكن يظنه تضارع الذي بالمدينة وهو غير ذلك» ثم قال : «والدليل ان تضارع الذي بالمدينة وادي وتضارع الذي بنجد جبل وفي ديوان الهذليين يقول الاصمعي انه بنجد» ثم قال : «وعن تضارع هناك شاهد للافوه الاودي في احد مغازيه على بني عامر بنجد قال الحموي»
قلت : هذا الكلام ليس أساس من الصحّة أو الضعف , بل هو من اختراعات الأخ صالح , فمن أين له أن جبل (تضارع) قريب من حمى (الربذة) ؟ وأين جبل (تضارع) هذا ؟ فليحدده إن استطاع , فالأخ صالح هنا لا يملك أصول الاستدلال عند البلدانيين , وهما :
1- النقل , 2- والواقع .
أمّا النقل فهذه الكتب , من ذكر أنها قريبة من الربذة ؟ , أمّا الواقع فهذه الربذة , فليرشدنا , قريب من أيّ جهة من الجهات الأربع ؟ ومن أخبره بذلك ؟ .
وقد تكلم هنا عن ثلاثة مواقع كلها مشتركة في اسم (تضارع) ولم يوفق للصواب في الكلام عن موقع واحد , وليس فيها موضعاً واحد في بلاد هذيل , وهي كالتالي :
(1) - (تضارع-المدينة) : قال صالح : «والدليل ان تضارع الذي بالمدينة وادي وتضارع الذي بنجد جبل وفي ديوان الهذليين يقول الاصمعي انه بنجد» .
قلت : عجيب هذا الدليل وهذا الاستدلاال , وهذا كله جهل واضح , فالصحيح أن (تضارع) المدينة (جماء) أي جبل وليس وادياً , و(الجمّاوات) ثلاثة جبال تقع في الجهة الغربية من المدينة المنورة على امتداد وادي العقيق ، ومنها جبل (تضارع) وهو أقرب الجماوات إلى المدينة المنورة , فجبل (تضارع) يبعد عن المدينة حدود أربعة كيلومترات تقريبا , فيقع على يمين المتجه إلى ميقات (ذو الحليفة) , وجبل (تضارع) لا زال معروفاً باسمه اليوم (تضارع) ويسميه بعضهم (غرابة) , وهو جبل معروف مشهور , وهو الذي يقول فيه أُحَيحة بن الجُلاح :
إني والمشعر الحَرامِ وما ... حَجَّتْ قريش له وماشعروا
لاآخذ الخُطَّة الدنيَّة ما ... دام يُرى من (تُضارُعٍ) حَجَرُ
وفي تاريخ المدينة لابن شبة (405) : عن أيوب بن النعمان بن عبد الله بن كعب بن مالك ، عن أبيه ، عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا يسيل تضارع إلا في عام ربيع» و(تضارع) الجبل الذي سفحه قصر ابن بكير العماني وقصور عبد العزيز بن عبد الله بن عمرو بن عثمان ، على ثلاثة أميال من المدينة على يمين من ذهب إلى مكة . انتهى
قال حسان بن ثابت رضي الله عنه :
وكان بأكناف العقيق وبيده ... يحطّ من الجماء ركنا ململما
وقال أيضاً :
عفا مكمن الجماء من أمّ عامر ... فسلع عفا منها فحرّة واقم
قلت : قوله : مكمن الجماء هو (المكيمن) جُبيل معروف بجنب (تضارع) .
وقال الواقدي: تضارع جبل بالعقيق .
قلت : وبهذا تعلم خطأ قول الأخ صالح وخطأ استدلاله واستنباطه .
(2) - (تضارع-تهامة) : وهو الذي عناه أبو ذؤيب بقوله :
كَأَنَّ ثِقَالَ الْمُزْنِ بَيْنَ تُضَارِعٍ ... وَشَامَةَ بَرْكٌ من جُذَام لَبِيْجُ
وهذا الجبل (تضارع) جنوب غرب (مكة) (35) كيلاً تقريباً , ويسمّى اليوم هو وجبل (تضرع) بـ(الضروع) وهما جبلان أحمران شمال جبل (سطاع) وهو ليس من جبال هذيل , بل هو من جبال كنانة , والقول الذي نسبه البكري للأصمعي هو خطأ محض , فالأصمعي ذكر أنه جبل في بلاد كنانة , وإليك النقل الصحيح عن الأصمعي :
قال الأصمعي كما في كتاب لغدة (17) عندما تكلّم على منازل وبلاد قبيلة كنانة : «ولكنانة بتهامة ماء يقال له (خذراق) لجماعة من كنانة , و(رخمة) لبني الديل خاصة , وهو بجبل يقال له (طفيل) , و(شامة) جُبيل بجنب طفيل , و(المنصحيّة) لبني الديل خاصة , ولهم (المحدث) و (مجنة) لبني الديل خاصة , ولهم من الجبال (تضرع) و(تضارع) وهما جبلان , وجبل يقال له (سَرْوَعة) , وجبل يقال له (ضَاف)» ا.هـ
وكذلك قال الزمخشري (المتوفى: 538 هـ) في «الجبال والأمكنة والمياه» : «تَضْرُع وتضارع: جبلان بتهامة لبني الدئل» .
وقال نصر الإسكندري (المتوفى: 561 هـ) في «الأمكنة والمياه والجبال» (1/240) : «تُضارع جبل بالحجاز لبني كِنانة» .
وقال ياقوت الحموي في « معجم البلدان» : «تُضَارُعُ : بضم الراء على تفاعل عن ابن حبيب، ولا نظير له في الأبنية، ويروى بكسر الراء: جبل بتهامة لبني كنانة ويُنشد قول أبي ذؤيب على الروايتين:
كأن ثقال المزن، بين تضارع ... وشابة، برك من جذام لبيج» . انتهى
قال الأستاذ عاتق البلادي رحمه الله في المعجم (873) عن (شابة) بعد أن ذكر بيت أبي ذؤيب السابق : «ما قُرن مع (تضارع) فهو (شامة) بالميم وكذلك إذا ذكر حول مكة , أمّا ما ذكر شرق المدينة فهو شابة بالموحدة التحتية , أمّا بيت أبي ذؤيب فهو على (شامة) التالي ذكرها» .
ثم قال عاتق البلادي رحمه الله أيضاً في المعجم (877) عن (شامة) : «وهما للجحادل من بني شعبة من كنانة , وخُلِطَ بينه وبين (شابة) بالباء المتقدم :
قال أبو ذؤيب الهذلي :
كأنّ ثِقالَ المُزنِ بين تُضارِعٍ ... وشامَةَ بَرْكٌ مِنْ جُذامَ لَبِيجُ
وتضارع وتضْرع : جبلان هناك يعرفان اليوم بـ(الضروع) , وإذا ذكر من نواحي مكة أو في ديار كنانة وشعر هذيل فهو (شامة) بالميم , وإذا ذكر في نواحي المدينة فهو (شابة) بالباء» .
ثم قال : «أمّا الذي في شعر أبي ذؤيب :
كَأَنَّ ثِقَالَ الْمُزْنِ بَيْنَ تُضَارِعٍ ... وَشَامَةَ بَرْكٌ من جُذَامَ لَبِيْج
قال السكري: شامة وتُضارع: جبلان بنجدٍ، ويُروى: شابة.
قلت: هذا خطأ , فشامة وتضارع جبلان حول مكة وليسا في نجد وقد نوهت على ذلك في شابة وكذلك في أول المادة» . انتهى كلام عاتق .
وذكر عاتق أيضاً في «معالم مكة التأريخية والأثرية» (ص47) : أن (الضُّرُوع) جنوب غربي مكة على (35) .
رحم الله الأستاذ البلادي رحمة واسعة فهذا الكلام وهذه القواعد تكتب بماء الذهب .
قال حمد الجاسر في تعليقه على كتاب الحازمي «الأماكن أو ما اتفق لفظه وافترق مسماه من الأمكنة» (ص511) تعقيباً على كلام السكري السابق : «وما أرى أبا ذؤيب قصد إلا (شامة) المتقدم ذكره , فهو واقع في بلاد قومه , أمّا (تضارع) فقد ذكر ياقوت أنه جبل بتهامة لبني كنانة , واستدل بقول أبي ذؤيب , ويفهم منه تقارب الجبلين , وبنو كنانة منازلهم تجاور منازل هذيل , في (تهامة) جنوب مكة وقربها» . انتهى
أمّا قول صالح : «وتضارع الذي بنجد جبل وفي ديوان الهذليين يقول الاصمعي انه بنجد» .
قلتُ : أمّا نقله عن الأصمعي فليس صحيحاً , وغرّه ما وجده في شرح السكري : «شامة وتُضارع جبلان بنجدٍ» , وبعدها «عن الأصمعي المزن السحاب كان فيه ماء أو لم يكن» , فظن الأخ صالح أن الجزء الأول مرتبط بالجزء الثاني , وساعده على فهم ذلك سوء صنيع المحقق في علامات الترقيم .
وقول : «شامة وتُضارع جبلان بنجدٍ» هذا من كلام السكري وأغلاطه المشهورة , وعزو هذا الكلام للأصمعي خطأ , ويتبين ذلك بعدة أمور :
أولاً : أن (شامة) و (تضارع) في تهامة لا يجهل ذلك أحد .
ثانيا : أن قول الأصمعي الثابت الذي نقله العالم المتخصص في الكتاب المتخصص يردّ على ذلك , قال الأصمعي كما في كتاب لغدة (17) عندما تكلّم على منازل وبلاد قبيلة كنانة : «ولكنانة بتهامة ماء يقال له (خذراق) لجماعة من كنانة , و(رخمة) لبني الديل خاصة , وهو بجبل يقال له (طفيل) , و(شامة) جُبيل بجنب طفيل , و(المنصحيّة) لبني الديل خاصة , ولهم (المحدث) و (مجنة) لبني الديل خاصة , ولهم من الجبال (تضرع) و(تضارع) وهما جبلان , وجبل يقال له (سَرْوَعة) , وجبل يقال له (ضَاف)» ا.هـ
ثالثاً :أنّ العلماء نقلوا هذا الكلام ونسبوه للسكري وليس للأصمعي , قال أبو بكر الحازمي (المتوفى: 584هـ) في «الأماكن أو ما اتفق لفظه وافترق مسماه من الأمكنة» : «في شعر أبي ذؤيب :
كَأَنَّ ثِقَالَ الْمُزْنِ بَيْنَ تُضَارِعٍ ... وَشَامَةَ بَرْكٌ من جُذَامَ لَبِيْجُ
قال السكري: شامة وتُضارع: جبلان بنجدٍ، ويُروى: شابة» . انتهى كلامه
وقد عقّب حمد الجاسر في تعليقه على كتاب الحازمي «الأماكن أو ما اتفق لفظه وافترق مسماه من الأمكنة» (ص511) على كلام السكري السابق فقال : «وما أرى أبا ذؤيب قصد إلا (شامة) المتقدم ذكره , فهو واقع في بلاد قومه , أمّا (تضارع) فقد ذكر ياقوت أنه جبل بتهامة لبني كنانة , واستدل بقول أبي ذؤيب , ويفهم منه تقارب الجبلين , وبنو كنانة منازلهم تجاور منازل هذيل , في (تهامة) جنوب مكة وقربها» . انتهى
وقال ياقوت الحموي رحمه الله في « معجم البلدان» في رسم (شَامَة) : «وأمّا الذي في شعر أبي ذؤيب:
كأنّ ثقال المزن بين تضارع ... وشامة برك من جذام لبيج
قال السكري: شامة وتضارع جبلان بنجد، ويروى شابة» . انتهى كلامه
وقال عاتق البلادي رحمه الله : «أمّا الذي في شعر أبي ذؤيب :
كَأَنَّ ثِقَالَ الْمُزْنِ بَيْنَ تُضَارِعٍ ... وَشَامَةَ بَرْكٌ من جُذَامَ لَبِيْج
قال السكري: شامة وتُضارع: جبلان بنجدٍ، ويُروى: شابة.
قلت: هذا خطأ , فشامة وتضارع جبلان حول مكة وليسا في نجد وقد نوهت على ذلك في شابة وكذلك في أول المادة» . انتهى كلام عاتق .
وبهذا يتبيّن للجميع تخبطات وجهالات الأخ صالح في قوله : «في نجد تضارع وشابة كما قال الاصمعي فلستم بأعلم منه» , وقوله : «وهذا قول الاصمعي عن شاهد الهذلي عن تضارع وشابة..قال في نجد!! وشامة تصحيف لان نجد ليس فيها شامة» .
وقد رددت عليه في دعواه بخصوص موضع (شابة) وبيّنت له بكلام أهل العلم خطأه , فقول أبي ذؤيب :
كأنّ ثقال المزن بين تضارع ... و(شامة) برك من جذام لبيج
هو (شامة) وليس (شابة)
وهي الرواية الصحيحة في ديوان أبي ذؤيب رواية الأصمعي , وهي الرواية التي حفظها العلماء قديماً وحديثاً , قال ابن السكّيت في كتاب «الألفاظ » (المتوفى: 244هـ) : «وقالَ أبو ذُؤيبٍ :
كأنّ ثِقالَ المُزنِ بَينَ تُضارِعٍ ... و(شامةَ) بَركٌ مِن جُذَام لَبِيجُ» .
وقال أبو بكر الحازمي (المتوفى: 584هـ) في «الأماكن أو ما اتفق لفظه وافترق مسماه من الأمكنة» :
«في شعر أبي ذؤيب :
كَأَنَّ ثِقَالَ الْمُزْنِ بَيْنَ تُضَارِعٍ ... وَ(شَامَةَ) بَرْكٌ من جُذَامَ لَبِيْجُ» .
وقال ياقوت الحموي رحمه الله في « معجم البلدان» في رسم (شَامَة) :
«وأمّا الذي في شعر أبي ذؤيب:
كأنّ ثقال المزن بين تضارع ... و(شامة) برك من جذام لبيج» .
وذكر (شامة) هنا هو الذي يشهد له الواقع من قرب (تضارع) و (شَامَة) من بلاد هذيل , بل ويشهد له سياق القصيدة , قال أبو ذُؤيب :
لِكُلِّ مَسِيلٍ مِنْ تِهامةَ بَعْدَ ما ... تَقَطَّعَ أَقرانُ السَّحابِ عَجيجُ
كأنّ ثِقالَ المُزنِ بين تُضارِعٍ ... وشامَةَ بَرْكٌ مِنْ جُذامَ لَبِيجُ
وقد ذكرت ذلك للأخ صالح لعله يفهم قول أبي ذؤيب , فردّ ردّاً يدل على أنه لايفهم أو لا يريد أن يفهم , فقال : «لاتقص النص لتوهم القاري انها بتهامة! فأبوذؤيب يصف رحيل السهمية الهذليه من الانعمين!» .
قلت : قال الحازمي (المتوفى: 584هـ) في كناب «الأماكن أو ما اتفق لفظه وافترق مسماه من الأمكنة» : «وحزم الأنعمين بمكّة» , ثم أين القص ؟ وأنا أدعوا القارئ لقراءة القصيدة حتى يعلم مصداقية صالح في قوله ونقله وفي فهمه للشعر .
قال أبو ذؤيب -رحمه الله تعالى- :
صَبا صَبْوةً بل لَجَّ وهو لَجوجُ ... وزالت لها بالأنعَمَيْنِ حُدُوجُ
كما زالَ نَخلٌ بـ(العِراقِ) مُكَمِّمٌ ... أُمِرَّ له مِن ذي الفُراتِ خَليجُ
فإِنّكَ عَمْرِى أيَّ نظرةِ عاشقٍ ... نظرتَ وقُدْسٌ دوننا ودَجُوجُ
إلى ظُعُنٍ كالدَّومِ فيها تَزايُلٌ ... وهِزّةُ أَجْمالٍ لهنّ وَسِيجُ
غَدَوْنَ عُجَالَى وانتحَتهُنَّ خَزْرَجٌ ... مُعَفِّيَةٌ آثارَهُنّ هَدُوج
قال العلامة اللغوي محمّد محمود الشنقيطي : لم يرو الأصمعي خمسة أبيات من أوّل القصيدة .
ونصّ السكري في الشرح (1/128) أنّ الأبيات الخمسة السابقة ليست من رواية الأصمعي , فقال السكري : من هاهنا روى الأصمعي :
سَقَى أُمَّ عَمْرٍو كلَّ آخِرِ ليلةٍ ... حَناتِمُ سُودٌ ماؤهُنّ ثَجِيجُ
تَرَوّتْ بماءِ البَحْرِ ثمَّ تَنَصّبَتْ ... على حَبَشِيّاتٍ لهنّ نَئيجُ
إِذا هَمَّ بالإِقلاعِ هَبَّت له الصَّبا ... فأعقَبَ نَشءٌ بعدَها وخُروجُ
يُضئُ سَناهُ راتِقًا متكَشِّفًا ... أَغَرَّ كمصباحِ اليهودِ دَلُوجُ
كما نَوَّرَ المِصباحُ للعُجْمِ أمرَهُم ... بُعَيدَ رُقادِ النائمِين عَريجُ
أرِقْتُ له ذاتَ العِشاءِ كأنّه ... مَخاريقُ يُدعَى وَسطَهنَّ خَريجُ
تُكَرْكُره نَجدِيّةٌ وتَمُدُّهُ ... يَمَانِيَةٌ فَوْقَ البِحارِ مَعُوجُ
له هَيدَبٌ يَعلُو الشِّراجَ وهَيْدَبٌ ... مُسِفٌّ بأَذنابِ التِّلاعِ خَلُوجُ
ضَفادِعُه غَرْقَى رِواءٌ كأنّها ... قِيانُ شُروبٍ رَجْعُهُنّ نَشِيجُ
لِكُلِّ مَسِيلٍ مِنْ تِهامةَ بَعْدَ ما ... تَقَطَّعَ أَقرانُ السَّحابِ عَجيجُ
كأنّ ثِقالَ المُزنِ بين تُضارِعٍ ... وشامَةَ بَرْكٌ مِنْ جُذامَ لَبِيجُ
فذلِكَ سُقيَا أمّ عَمرٍ وإنّني ... لِمَا بذَلتْ مِن سَيبِها لبَهيجُ
كأنّ ابنةَ السَّهمِيِّ دُرّةُ قامِسٍ ... لها بعدَ تقطيع النُّبوحِ وَهيجُ
بكفَّيْ رَقاحِيٍّ يُحِبُّ نمَاءَها ... فيُبرِزُها للبَيْعِ فهيَ فَرِيجُ
أَجازَ إليها لُجَّةً بعد لُجَّةٍ ... أَزَلُّ كغُرْنُوقِ الضُّحولِ عَمُوجُ
فجاءَ بها ما شِئتَ مِن لَطَمِيّةٍ ... يَدومُ الفراتُ فَوقهَا ويموجُ
فجاءَ بها بَعْدَ الكَلَالِ كأنّه ... من الأيْنِ مِحْراس أقَذُّ سَحيجُ
عَشِيّةَ قامت بالفِناءَ كأنّها ... عَقِيلةُ نَهْبٍ تُصْطَفَى وتَغوجُ
وصُبَّ عليها الطِّيبُ حتَّى كأنها ... أسِيٌّ على أمِّ الدِّماغِ حَجِيجُ
كأنَّ عليها بالَةً لَطَمِيَّةً ... لها مِن خِلالِ الدَّأيتيْن أريجُ
كأنَّ ابنَةَ السَّهْمِيِّ يَومَ لَقِيتهُا ... مُوَشَّحةٌ بالطُّرّتَينِ هَمِيجُ
بأَسْفلِ ذات الدَّبْرِ أُفرِدَ خُشْفها ... فقد وَلِهَتْ يَومَينِ فهيَ خَلُوج
فإنْ تَصْرِمِي حَبْليِ وإنْ تَتَبدَّلي ... خَليلًا ومنهمْ صالحٌ وسَمِيجُ
فإنِّي صَبَرتُ النَّفس بَعدَ ابنِ عَنبسٍ ... وقد لَجَّ مِن مَاءِ الشُّؤون لَجوجُ
لأُحْسَبَ جَلْدًا أو ليُنبَأَ شامتٌ ... ولِلشَّرِّ بعد القارِعات فُروج
فلذلِكَ أَعْلَى مِنكِ فَقْدًا لأنّه ... كَريمٌ وبَطْنِي بالكِرامِ بَعيجُ
وذلك مَشْبوحُ الذِّراعَينِ خَلْجمٌ ... خَشُوفٌ، بأَعْراضِ الدِّيارِ دَلُوجُ
ضَروبٌ لِهامات الرِّجالِ بسَيْفهِ ... إِذا حَنَّ نَبْعٌ بينَهمْ وشَرِيجُ
يقرِّبُهُ للمستضِيفِ إذا أتَى ... جِراءٌ وشَدٌّ كالحَرِيقِ ضَريجُ
وهذا الوصف من أبي ذؤيب هو الذي يوافق الواقع , فالبحر أمامه والسحاب لقربه من الأرض وتفرقه بين هذين الجبلين كأنه إبل , فهو يصف هذا الوصف الجميل بعد المطر , وبعد أن سالت تهامة , وأصبح لكل مسيل صوت بالماء , وتفرق السحاب ولم يبق إلا ثقال المزن
والسحاب , وكأنه قد وقف على جبل (سطاع) وليس بينه وبين البحر إلا ذلك السهل الممتد , وجبل (شامة) عن شماله وجبل (تضارع) عن يمينه والسحاب بعد المطر متفرق إلا الثقال منه , فكأنه الإبل في مباركها , ولكن الأخ صالح أفسد هذا الوصف الجميل وشوّه شعر أبي ذؤيب , بكلام لا يقبله حتى الحمقى .
فقال صالح تفسيرا لقصيدة أبي ذؤيب : «يصف اثر السيول في تهامة ومن ثم في تضارع وبنجد واعتقد ان الاصمعي مر على النص قبلك» .
قلت : لقد قوّلت أبا ذؤيب ما لم يقل , إلا إذا كنت تظن أن سيل تهامة يذهب لنجد فهذه كارثة أخرى .
أما قول صالح : «ويذكر قدس موضع بنجد كما ذكر ياقوت وكما في الديوان رواية الاصمعي» فهذا الخطأ أوضح من أن يُرد عليه ، ولو كان للقول موضعاً لرددت عليه ، ولكن كثرة هذه التعقيبات عند من لا يشكرها هي مضيعة للوقت والجهد ، والله المستعان. .
(3) - (تضارع-بني عامر) التي قال فيه الأفوه الأودي :
وجرّد جمعها بيض خفاف ... على جنبي تضارع فاللهيب
لم أقف عليه , ولعله في جنوب الجزيرة العربية حيث منازل بني عامر التي تجاور بلاد مذحج القحطانية قوم الأفوه , ومما يظهر من كلام الأصفهاني ومن بيت الأفوه أنه ماء أو وادي وليس جبلاً , وهذا البيت من قصيدة قالها الأفوه في «يوم الصبيب» وهو لم يحضره , وهي معركة بين بني أود القحطانية وبين بني جعفر من بني كلاب العامرية , قال أبو الفرج الأصفهاني في كتاب «الأغاني» (12/120) : «مضى زيد بن الحارث حتى لقي بني عامر بتضارع ، وعليهم عوف بن الأحوص بن جعفر بن كلاب» .
قال صالح : «تضارع جبل بنجد قريب من حمى الربذة وشابة قال البكري جبل لهذيل لكن يظنه تضارع الذي بالمدينة وهو غير ذلك» ثم قال : «والدليل ان تضارع الذي بالمدينة وادي وتضارع الذي بنجد جبل وفي ديوان الهذليين يقول الاصمعي انه بنجد» ثم قال : «وعن تضارع هناك شاهد للافوه الاودي في احد مغازيه على بني عامر بنجد قال الحموي»
قلت : هذا الكلام ليس أساس من الصحّة أو الضعف , بل هو من اختراعات الأخ صالح , فمن أين له أن جبل (تضارع) قريب من حمى (الربذة) ؟ وأين جبل (تضارع) هذا ؟ فليحدده إن استطاع , فالأخ صالح هنا لا يملك أصول الاستدلال عند البلدانيين , وهما :
1- النقل , 2- والواقع .
أمّا النقل فهذه الكتب , من ذكر أنها قريبة من الربذة ؟ , أمّا الواقع فهذه الربذة , فليرشدنا , قريب من أيّ جهة من الجهات الأربع ؟ ومن أخبره بذلك ؟ .
وقد تكلم هنا عن ثلاثة مواقع كلها مشتركة في اسم (تضارع) ولم يوفق للصواب في الكلام عن موقع واحد , وليس فيها موضعاً واحد في بلاد هذيل , وهي كالتالي :
(1) - (تضارع-المدينة) : قال صالح : «والدليل ان تضارع الذي بالمدينة وادي وتضارع الذي بنجد جبل وفي ديوان الهذليين يقول الاصمعي انه بنجد» .
قلت : عجيب هذا الدليل وهذا الاستدلاال , وهذا كله جهل واضح , فالصحيح أن (تضارع) المدينة (جماء) أي جبل وليس وادياً , و(الجمّاوات) ثلاثة جبال تقع في الجهة الغربية من المدينة المنورة على امتداد وادي العقيق ، ومنها جبل (تضارع) وهو أقرب الجماوات إلى المدينة المنورة , فجبل (تضارع) يبعد عن المدينة حدود أربعة كيلومترات تقريبا , فيقع على يمين المتجه إلى ميقات (ذو الحليفة) , وجبل (تضارع) لا زال معروفاً باسمه اليوم (تضارع) ويسميه بعضهم (غرابة) , وهو جبل معروف مشهور , وهو الذي يقول فيه أُحَيحة بن الجُلاح :
إني والمشعر الحَرامِ وما ... حَجَّتْ قريش له وماشعروا
لاآخذ الخُطَّة الدنيَّة ما ... دام يُرى من (تُضارُعٍ) حَجَرُ
وفي تاريخ المدينة لابن شبة (405) : عن أيوب بن النعمان بن عبد الله بن كعب بن مالك ، عن أبيه ، عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا يسيل تضارع إلا في عام ربيع» و(تضارع) الجبل الذي سفحه قصر ابن بكير العماني وقصور عبد العزيز بن عبد الله بن عمرو بن عثمان ، على ثلاثة أميال من المدينة على يمين من ذهب إلى مكة . انتهى
قال حسان بن ثابت رضي الله عنه :
وكان بأكناف العقيق وبيده ... يحطّ من الجماء ركنا ململما
وقال أيضاً :
عفا مكمن الجماء من أمّ عامر ... فسلع عفا منها فحرّة واقم
قلت : قوله : مكمن الجماء هو (المكيمن) جُبيل معروف بجنب (تضارع) .
وقال الواقدي: تضارع جبل بالعقيق .
قلت : وبهذا تعلم خطأ قول الأخ صالح وخطأ استدلاله واستنباطه .
(2) - (تضارع-تهامة) : وهو الذي عناه أبو ذؤيب بقوله :
كَأَنَّ ثِقَالَ الْمُزْنِ بَيْنَ تُضَارِعٍ ... وَشَامَةَ بَرْكٌ من جُذَام لَبِيْجُ
وهذا الجبل (تضارع) جنوب غرب (مكة) (35) كيلاً تقريباً , ويسمّى اليوم هو وجبل (تضرع) بـ(الضروع) وهما جبلان أحمران شمال جبل (سطاع) وهو ليس من جبال هذيل , بل هو من جبال كنانة , والقول الذي نسبه البكري للأصمعي هو خطأ محض , فالأصمعي ذكر أنه جبل في بلاد كنانة , وإليك النقل الصحيح عن الأصمعي :
قال الأصمعي كما في كتاب لغدة (17) عندما تكلّم على منازل وبلاد قبيلة كنانة : «ولكنانة بتهامة ماء يقال له (خذراق) لجماعة من كنانة , و(رخمة) لبني الديل خاصة , وهو بجبل يقال له (طفيل) , و(شامة) جُبيل بجنب طفيل , و(المنصحيّة) لبني الديل خاصة , ولهم (المحدث) و (مجنة) لبني الديل خاصة , ولهم من الجبال (تضرع) و(تضارع) وهما جبلان , وجبل يقال له (سَرْوَعة) , وجبل يقال له (ضَاف)» ا.هـ
وكذلك قال الزمخشري (المتوفى: 538 هـ) في «الجبال والأمكنة والمياه» : «تَضْرُع وتضارع: جبلان بتهامة لبني الدئل» .
وقال نصر الإسكندري (المتوفى: 561 هـ) في «الأمكنة والمياه والجبال» (1/240) : «تُضارع جبل بالحجاز لبني كِنانة» .
وقال ياقوت الحموي في « معجم البلدان» : «تُضَارُعُ : بضم الراء على تفاعل عن ابن حبيب، ولا نظير له في الأبنية، ويروى بكسر الراء: جبل بتهامة لبني كنانة ويُنشد قول أبي ذؤيب على الروايتين:
كأن ثقال المزن، بين تضارع ... وشابة، برك من جذام لبيج» . انتهى
قال الأستاذ عاتق البلادي رحمه الله في المعجم (873) عن (شابة) بعد أن ذكر بيت أبي ذؤيب السابق : «ما قُرن مع (تضارع) فهو (شامة) بالميم وكذلك إذا ذكر حول مكة , أمّا ما ذكر شرق المدينة فهو شابة بالموحدة التحتية , أمّا بيت أبي ذؤيب فهو على (شامة) التالي ذكرها» .
ثم قال عاتق البلادي رحمه الله أيضاً في المعجم (877) عن (شامة) : «وهما للجحادل من بني شعبة من كنانة , وخُلِطَ بينه وبين (شابة) بالباء المتقدم :
قال أبو ذؤيب الهذلي :
كأنّ ثِقالَ المُزنِ بين تُضارِعٍ ... وشامَةَ بَرْكٌ مِنْ جُذامَ لَبِيجُ
وتضارع وتضْرع : جبلان هناك يعرفان اليوم بـ(الضروع) , وإذا ذكر من نواحي مكة أو في ديار كنانة وشعر هذيل فهو (شامة) بالميم , وإذا ذكر في نواحي المدينة فهو (شابة) بالباء» .
ثم قال : «أمّا الذي في شعر أبي ذؤيب :
كَأَنَّ ثِقَالَ الْمُزْنِ بَيْنَ تُضَارِعٍ ... وَشَامَةَ بَرْكٌ من جُذَامَ لَبِيْج
قال السكري: شامة وتُضارع: جبلان بنجدٍ، ويُروى: شابة.
قلت: هذا خطأ , فشامة وتضارع جبلان حول مكة وليسا في نجد وقد نوهت على ذلك في شابة وكذلك في أول المادة» . انتهى كلام عاتق .
وذكر عاتق أيضاً في «معالم مكة التأريخية والأثرية» (ص47) : أن (الضُّرُوع) جنوب غربي مكة على (35) .
رحم الله الأستاذ البلادي رحمة واسعة فهذا الكلام وهذه القواعد تكتب بماء الذهب .
قال حمد الجاسر في تعليقه على كتاب الحازمي «الأماكن أو ما اتفق لفظه وافترق مسماه من الأمكنة» (ص511) تعقيباً على كلام السكري السابق : «وما أرى أبا ذؤيب قصد إلا (شامة) المتقدم ذكره , فهو واقع في بلاد قومه , أمّا (تضارع) فقد ذكر ياقوت أنه جبل بتهامة لبني كنانة , واستدل بقول أبي ذؤيب , ويفهم منه تقارب الجبلين , وبنو كنانة منازلهم تجاور منازل هذيل , في (تهامة) جنوب مكة وقربها» . انتهى
أمّا قول صالح : «وتضارع الذي بنجد جبل وفي ديوان الهذليين يقول الاصمعي انه بنجد» .
قلتُ : أمّا نقله عن الأصمعي فليس صحيحاً , وغرّه ما وجده في شرح السكري : «شامة وتُضارع جبلان بنجدٍ» , وبعدها «عن الأصمعي المزن السحاب كان فيه ماء أو لم يكن» , فظن الأخ صالح أن الجزء الأول مرتبط بالجزء الثاني , وساعده على فهم ذلك سوء صنيع المحقق في علامات الترقيم .
وقول : «شامة وتُضارع جبلان بنجدٍ» هذا من كلام السكري وأغلاطه المشهورة , وعزو هذا الكلام للأصمعي خطأ , ويتبين ذلك بعدة أمور :
أولاً : أن (شامة) و (تضارع) في تهامة لا يجهل ذلك أحد .
ثانيا : أن قول الأصمعي الثابت الذي نقله العالم المتخصص في الكتاب المتخصص يردّ على ذلك , قال الأصمعي كما في كتاب لغدة (17) عندما تكلّم على منازل وبلاد قبيلة كنانة : «ولكنانة بتهامة ماء يقال له (خذراق) لجماعة من كنانة , و(رخمة) لبني الديل خاصة , وهو بجبل يقال له (طفيل) , و(شامة) جُبيل بجنب طفيل , و(المنصحيّة) لبني الديل خاصة , ولهم (المحدث) و (مجنة) لبني الديل خاصة , ولهم من الجبال (تضرع) و(تضارع) وهما جبلان , وجبل يقال له (سَرْوَعة) , وجبل يقال له (ضَاف)» ا.هـ
ثالثاً :أنّ العلماء نقلوا هذا الكلام ونسبوه للسكري وليس للأصمعي , قال أبو بكر الحازمي (المتوفى: 584هـ) في «الأماكن أو ما اتفق لفظه وافترق مسماه من الأمكنة» : «في شعر أبي ذؤيب :
كَأَنَّ ثِقَالَ الْمُزْنِ بَيْنَ تُضَارِعٍ ... وَشَامَةَ بَرْكٌ من جُذَامَ لَبِيْجُ
قال السكري: شامة وتُضارع: جبلان بنجدٍ، ويُروى: شابة» . انتهى كلامه
وقد عقّب حمد الجاسر في تعليقه على كتاب الحازمي «الأماكن أو ما اتفق لفظه وافترق مسماه من الأمكنة» (ص511) على كلام السكري السابق فقال : «وما أرى أبا ذؤيب قصد إلا (شامة) المتقدم ذكره , فهو واقع في بلاد قومه , أمّا (تضارع) فقد ذكر ياقوت أنه جبل بتهامة لبني كنانة , واستدل بقول أبي ذؤيب , ويفهم منه تقارب الجبلين , وبنو كنانة منازلهم تجاور منازل هذيل , في (تهامة) جنوب مكة وقربها» . انتهى
وقال ياقوت الحموي رحمه الله في « معجم البلدان» في رسم (شَامَة) : «وأمّا الذي في شعر أبي ذؤيب:
كأنّ ثقال المزن بين تضارع ... وشامة برك من جذام لبيج
قال السكري: شامة وتضارع جبلان بنجد، ويروى شابة» . انتهى كلامه
وقال عاتق البلادي رحمه الله : «أمّا الذي في شعر أبي ذؤيب :
كَأَنَّ ثِقَالَ الْمُزْنِ بَيْنَ تُضَارِعٍ ... وَشَامَةَ بَرْكٌ من جُذَامَ لَبِيْج
قال السكري: شامة وتُضارع: جبلان بنجدٍ، ويُروى: شابة.
قلت: هذا خطأ , فشامة وتضارع جبلان حول مكة وليسا في نجد وقد نوهت على ذلك في شابة وكذلك في أول المادة» . انتهى كلام عاتق .
وبهذا يتبيّن للجميع تخبطات وجهالات الأخ صالح في قوله : «في نجد تضارع وشابة كما قال الاصمعي فلستم بأعلم منه» , وقوله : «وهذا قول الاصمعي عن شاهد الهذلي عن تضارع وشابة..قال في نجد!! وشامة تصحيف لان نجد ليس فيها شامة» .
وقد رددت عليه في دعواه بخصوص موضع (شابة) وبيّنت له بكلام أهل العلم خطأه , فقول أبي ذؤيب :
كأنّ ثقال المزن بين تضارع ... و(شامة) برك من جذام لبيج
هو (شامة) وليس (شابة)
وهي الرواية الصحيحة في ديوان أبي ذؤيب رواية الأصمعي , وهي الرواية التي حفظها العلماء قديماً وحديثاً , قال ابن السكّيت في كتاب «الألفاظ » (المتوفى: 244هـ) : «وقالَ أبو ذُؤيبٍ :
كأنّ ثِقالَ المُزنِ بَينَ تُضارِعٍ ... و(شامةَ) بَركٌ مِن جُذَام لَبِيجُ» .
وقال أبو بكر الحازمي (المتوفى: 584هـ) في «الأماكن أو ما اتفق لفظه وافترق مسماه من الأمكنة» :
«في شعر أبي ذؤيب :
كَأَنَّ ثِقَالَ الْمُزْنِ بَيْنَ تُضَارِعٍ ... وَ(شَامَةَ) بَرْكٌ من جُذَامَ لَبِيْجُ» .
وقال ياقوت الحموي رحمه الله في « معجم البلدان» في رسم (شَامَة) :
«وأمّا الذي في شعر أبي ذؤيب:
كأنّ ثقال المزن بين تضارع ... و(شامة) برك من جذام لبيج» .
وذكر (شامة) هنا هو الذي يشهد له الواقع من قرب (تضارع) و (شَامَة) من بلاد هذيل , بل ويشهد له سياق القصيدة , قال أبو ذُؤيب :
لِكُلِّ مَسِيلٍ مِنْ تِهامةَ بَعْدَ ما ... تَقَطَّعَ أَقرانُ السَّحابِ عَجيجُ
كأنّ ثِقالَ المُزنِ بين تُضارِعٍ ... وشامَةَ بَرْكٌ مِنْ جُذامَ لَبِيجُ
وقد ذكرت ذلك للأخ صالح لعله يفهم قول أبي ذؤيب , فردّ ردّاً يدل على أنه لايفهم أو لا يريد أن يفهم , فقال : «لاتقص النص لتوهم القاري انها بتهامة! فأبوذؤيب يصف رحيل السهمية الهذليه من الانعمين!» .
قلت : قال الحازمي (المتوفى: 584هـ) في كناب «الأماكن أو ما اتفق لفظه وافترق مسماه من الأمكنة» : «وحزم الأنعمين بمكّة» , ثم أين القص ؟ وأنا أدعوا القارئ لقراءة القصيدة حتى يعلم مصداقية صالح في قوله ونقله وفي فهمه للشعر .
قال أبو ذؤيب -رحمه الله تعالى- :
صَبا صَبْوةً بل لَجَّ وهو لَجوجُ ... وزالت لها بالأنعَمَيْنِ حُدُوجُ
كما زالَ نَخلٌ بـ(العِراقِ) مُكَمِّمٌ ... أُمِرَّ له مِن ذي الفُراتِ خَليجُ
فإِنّكَ عَمْرِى أيَّ نظرةِ عاشقٍ ... نظرتَ وقُدْسٌ دوننا ودَجُوجُ
إلى ظُعُنٍ كالدَّومِ فيها تَزايُلٌ ... وهِزّةُ أَجْمالٍ لهنّ وَسِيجُ
غَدَوْنَ عُجَالَى وانتحَتهُنَّ خَزْرَجٌ ... مُعَفِّيَةٌ آثارَهُنّ هَدُوج
قال العلامة اللغوي محمّد محمود الشنقيطي : لم يرو الأصمعي خمسة أبيات من أوّل القصيدة .
ونصّ السكري في الشرح (1/128) أنّ الأبيات الخمسة السابقة ليست من رواية الأصمعي , فقال السكري : من هاهنا روى الأصمعي :
سَقَى أُمَّ عَمْرٍو كلَّ آخِرِ ليلةٍ ... حَناتِمُ سُودٌ ماؤهُنّ ثَجِيجُ
تَرَوّتْ بماءِ البَحْرِ ثمَّ تَنَصّبَتْ ... على حَبَشِيّاتٍ لهنّ نَئيجُ
إِذا هَمَّ بالإِقلاعِ هَبَّت له الصَّبا ... فأعقَبَ نَشءٌ بعدَها وخُروجُ
يُضئُ سَناهُ راتِقًا متكَشِّفًا ... أَغَرَّ كمصباحِ اليهودِ دَلُوجُ
كما نَوَّرَ المِصباحُ للعُجْمِ أمرَهُم ... بُعَيدَ رُقادِ النائمِين عَريجُ
أرِقْتُ له ذاتَ العِشاءِ كأنّه ... مَخاريقُ يُدعَى وَسطَهنَّ خَريجُ
تُكَرْكُره نَجدِيّةٌ وتَمُدُّهُ ... يَمَانِيَةٌ فَوْقَ البِحارِ مَعُوجُ
له هَيدَبٌ يَعلُو الشِّراجَ وهَيْدَبٌ ... مُسِفٌّ بأَذنابِ التِّلاعِ خَلُوجُ
ضَفادِعُه غَرْقَى رِواءٌ كأنّها ... قِيانُ شُروبٍ رَجْعُهُنّ نَشِيجُ
لِكُلِّ مَسِيلٍ مِنْ تِهامةَ بَعْدَ ما ... تَقَطَّعَ أَقرانُ السَّحابِ عَجيجُ
كأنّ ثِقالَ المُزنِ بين تُضارِعٍ ... وشامَةَ بَرْكٌ مِنْ جُذامَ لَبِيجُ
فذلِكَ سُقيَا أمّ عَمرٍ وإنّني ... لِمَا بذَلتْ مِن سَيبِها لبَهيجُ
كأنّ ابنةَ السَّهمِيِّ دُرّةُ قامِسٍ ... لها بعدَ تقطيع النُّبوحِ وَهيجُ
بكفَّيْ رَقاحِيٍّ يُحِبُّ نمَاءَها ... فيُبرِزُها للبَيْعِ فهيَ فَرِيجُ
أَجازَ إليها لُجَّةً بعد لُجَّةٍ ... أَزَلُّ كغُرْنُوقِ الضُّحولِ عَمُوجُ
فجاءَ بها ما شِئتَ مِن لَطَمِيّةٍ ... يَدومُ الفراتُ فَوقهَا ويموجُ
فجاءَ بها بَعْدَ الكَلَالِ كأنّه ... من الأيْنِ مِحْراس أقَذُّ سَحيجُ
عَشِيّةَ قامت بالفِناءَ كأنّها ... عَقِيلةُ نَهْبٍ تُصْطَفَى وتَغوجُ
وصُبَّ عليها الطِّيبُ حتَّى كأنها ... أسِيٌّ على أمِّ الدِّماغِ حَجِيجُ
كأنَّ عليها بالَةً لَطَمِيَّةً ... لها مِن خِلالِ الدَّأيتيْن أريجُ
كأنَّ ابنَةَ السَّهْمِيِّ يَومَ لَقِيتهُا ... مُوَشَّحةٌ بالطُّرّتَينِ هَمِيجُ
بأَسْفلِ ذات الدَّبْرِ أُفرِدَ خُشْفها ... فقد وَلِهَتْ يَومَينِ فهيَ خَلُوج
فإنْ تَصْرِمِي حَبْليِ وإنْ تَتَبدَّلي ... خَليلًا ومنهمْ صالحٌ وسَمِيجُ
فإنِّي صَبَرتُ النَّفس بَعدَ ابنِ عَنبسٍ ... وقد لَجَّ مِن مَاءِ الشُّؤون لَجوجُ
لأُحْسَبَ جَلْدًا أو ليُنبَأَ شامتٌ ... ولِلشَّرِّ بعد القارِعات فُروج
فلذلِكَ أَعْلَى مِنكِ فَقْدًا لأنّه ... كَريمٌ وبَطْنِي بالكِرامِ بَعيجُ
وذلك مَشْبوحُ الذِّراعَينِ خَلْجمٌ ... خَشُوفٌ، بأَعْراضِ الدِّيارِ دَلُوجُ
ضَروبٌ لِهامات الرِّجالِ بسَيْفهِ ... إِذا حَنَّ نَبْعٌ بينَهمْ وشَرِيجُ
يقرِّبُهُ للمستضِيفِ إذا أتَى ... جِراءٌ وشَدٌّ كالحَرِيقِ ضَريجُ
وهذا الوصف من أبي ذؤيب هو الذي يوافق الواقع , فالبحر أمامه والسحاب لقربه من الأرض وتفرقه بين هذين الجبلين كأنه إبل , فهو يصف هذا الوصف الجميل بعد المطر , وبعد أن سالت تهامة , وأصبح لكل مسيل صوت بالماء , وتفرق السحاب ولم يبق إلا ثقال المزن
والسحاب , وكأنه قد وقف على جبل (سطاع) وليس بينه وبين البحر إلا ذلك السهل الممتد , وجبل (شامة) عن شماله وجبل (تضارع) عن يمينه والسحاب بعد المطر متفرق إلا الثقال منه , فكأنه الإبل في مباركها , ولكن الأخ صالح أفسد هذا الوصف الجميل وشوّه شعر أبي ذؤيب , بكلام لا يقبله حتى الحمقى .
فقال صالح تفسيرا لقصيدة أبي ذؤيب : «يصف اثر السيول في تهامة ومن ثم في تضارع وبنجد واعتقد ان الاصمعي مر على النص قبلك» .
قلت : لقد قوّلت أبا ذؤيب ما لم يقل , إلا إذا كنت تظن أن سيل تهامة يذهب لنجد فهذه كارثة أخرى .
أما قول صالح : «ويذكر قدس موضع بنجد كما ذكر ياقوت وكما في الديوان رواية الاصمعي» فهذا الخطأ أوضح من أن يُرد عليه ، ولو كان للقول موضعاً لرددت عليه ، ولكن كثرة هذه التعقيبات عند من لا يشكرها هي مضيعة للوقت والجهد ، والله المستعان. .
(3) - (تضارع-بني عامر) التي قال فيه الأفوه الأودي :
وجرّد جمعها بيض خفاف ... على جنبي تضارع فاللهيب
لم أقف عليه , ولعله في جنوب الجزيرة العربية حيث منازل بني عامر التي تجاور بلاد مذحج القحطانية قوم الأفوه , ومما يظهر من كلام الأصفهاني ومن بيت الأفوه أنه ماء أو وادي وليس جبلاً , وهذا البيت من قصيدة قالها الأفوه في «يوم الصبيب» وهو لم يحضره , وهي معركة بين بني أود القحطانية وبين بني جعفر من بني كلاب العامرية , قال أبو الفرج الأصفهاني في كتاب «الأغاني» (12/120) : «مضى زيد بن الحارث حتى لقي بني عامر بتضارع ، وعليهم عوف بن الأحوص بن جعفر بن كلاب» .